05 - 05 - 2025

ترامب بين الأقوال والأفعال: قراءة في سياسة التقلبات والانقسامات

ترامب بين الأقوال والأفعال: قراءة في سياسة التقلبات والانقسامات

السياسة الأمريكية دائمًا ما كانت تمثل بوصلة يتحرك العالم على إيقاعها، لكن حينما وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أصبح العالم على موعد مع مرحلة من السياسات الصادمة، التي خلطت بين البراغماتية المفرطة والشعبوية، لتضعنا أمام مشهد يعكس انحرافًا خطيرًا في مسار السياسة العالمية.

ترامب لم يكن رئيسًا عاديًا، بل كان ظاهرة سياسية استثنائية قسّمت الداخل الأمريكي وأثرت على توازن القوى في النظام العالمي. عبر تصريحاته الحادة وسياساته المتقلبة، فضح ترامب كثيرًا من الحقائق التي طالما حاولت الإدارة الأمريكية التستر عليها.

ترامب والداخل الأمريكي: صناعة الانقسام

على المستوى الداخلي، اتبع ترامب سياسة قائمة على تأجيج الانقسامات بدلاً من توحيد الصفوف.

العنصرية الممنهجة:

ترامب أعاد إحياء النزعات العنصرية داخل المجتمع الأمريكي، مستخدمًا لغة تحريضية ضد الأقليات والمهاجرين. سياساته مثل بناء الجدار على الحدود المكسيكية، وقراراته بحظر دخول المسلمين من دول معينة، ليست سوى تجسيد لسياسة قائمة على التمييز والكراهية.

اقتصاد الطبقة العليا:

رغم حديثه المستمر عن ازدهار الاقتصاد الأمريكي، فإن الواقع يقول إن سياسات ترامب أفادت الطبقة العليا وأصحاب رؤوس الأموال بشكل أساسي، بينما تركت الطبقة الوسطى والفقيرة تعاني من أعباء إضافية. التخفيضات الضريبية التي قدمها للشركات الكبرى جاءت على حساب الخدمات الاجتماعية والصحية، مما عمّق الفجوة الطبقية.

الإعلام والقضاء:

لم يكتفِ ترامب بتقسيم الشعب، بل هاجم المؤسسات الديمقراطية مثل الإعلام والقضاء، واصفًا إياها بـ"أعداء الشعب" حينما انتقدته أو وقفت ضد سياساته. هذه الهجمات لم تكن مجرد كلمات، بل محاولة لزعزعة ثقة الشعب في أعمدة الديمقراطية الأمريكية.

سياسات ترامب الخارجية: انسحاب من القيادة أم هيمنة بقناع جديد؟

على الساحة الدولية، أدار ترامب سياسة "أمريكا أولاً" التي لم تعنِ سوى "العالم لا يهم". لكن خلف هذا الشعار، يمكننا أن نرى الوجه الحقيقي لهذه السياسات:

التخلي عن الحلفاء:

انسحب ترامب من عدة اتفاقيات دولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، وأدار ظهره لحلفاء تقليديين مثل دول الاتحاد الأوروبي. قراراته تلك جعلت العالم أقل استقرارًا وزادت من التوترات الدولية.

العلاقة مع الأنظمة المستبدة:

رغم شعارات الحرية والديمقراطية التي ترفعها الولايات المتحدة، نجد أن ترامب دعم أنظمة استبدادية حول العالم. تحالفاته مع بعض القادة الديكتاتوريين، مثل كوريا الشمالية والسعودية، تكشف أن المصالح الاقتصادية والسياسية كانت دائمًا هي الأولوية، بغض النظر عن حقوق الإنسان.

القضية الفلسطينية وصفقة القرن:

إعلان ترامب عن "صفقة القرن" كان إعلانًا رسميًا لدعم الاحتلال الإسرائيلي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. هذه الصفقة لم تكن سوى محاولة لتصفية القضية الفلسطينية وتجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه التاريخية.

ترامب والصين: حرب باردة جديدة؟

من أبرز ملامح سياسة ترامب الخارجية، حربه المفتوحة مع الصين، التي لم تقتصر على الاقتصاد، بل امتدت لتشمل التكنولوجيا والسياسة.

الحرب التجارية:

فرض ترامب رسومًا جمركية ضخمة على الواردات الصينية، مما أشعل حربًا تجارية أضرت ليس فقط بالصين وأمريكا، بل بالاقتصاد العالمي ككل.

استهداف التكنولوجيا:

حظر شركات التكنولوجيا الصينية، مثل هواوي، لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل جزءًا من صراع أكبر للسيطرة على التكنولوجيا العالمية.

ترامب في ميزان النظام العالمي: كشف الأقنعة أم إغراق العالم بالفوضى؟

ترامب، دون شك، لم يخلق الفوضى العالمية، لكنه عمّقها وكشف زيف الشعارات الأمريكية. لقد أظهر للعالم الوجه الحقيقي للنظام الدولي: نظام قائم على المصالح فقط، ولا مكان فيه للأخلاق أو القيم الإنسانية.

انحسار الهيمنة الأمريكية:

سياسات ترامب، رغم عدائيتها، أضعفت الهيمنة الأمريكية. انسحابه من الاتفاقيات الدولية، وتخليه عن الحلفاء، أعطى فرصة للصين وروسيا لتوسيع نفوذهما على حساب الولايات المتحدة.

الفوضى الموجهة:

سياسات ترامب الخارجية لم تكن عشوائية كما قد تبدو، بل كانت جزءًا من استراتيجية لخلق فوضى عالمية تمكّن أمريكا من إعادة تشكيل النظام الدولي وفقًا لمصالحها.

ما بعد ترامب: إرث ثقيل ومستقبل مظلم

ترك ترامب إرثًا ثقيلًا من الأزمات والانقسامات، ليس فقط داخل أمريكا، بل على مستوى العالم. صعود الشعبوية، تصاعد النزاعات التجارية، وتزايد التوترات الجيوسياسية هي نتائج مباشرة لسياساته.

إن ما فعله ترامب كان بمثابة جرس إنذار للعالم، يُحذرنا من أن النظام الدولي الحالي يتداعى، وأن الاستقرار الذي كنا نعتقده دائمًا ليس سوى وهم.

رسالة إلى العالم: مواجهة الحقيقة

لا يمكن للعالم أن يستمر في تجاهل الحقائق التي كشفها ترامب. النظام الدولي يحتاج إلى إصلاح جذري، قائم على العدالة والتعاون الحقيقي، وليس على الهيمنة والمصالح الضيقة.

أما الشعوب، فعليها أن تدرك أن الحل لن يأتي من القادة أو المؤسسات الدولية، بل من إرادتها ووعيها. المستقبل لا يصنعه المتفرجون، بل من يواجهون الواقع بشجاعة.
------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
* قيادي عمالي مستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس

مقالات اخرى للكاتب

يوم الشهيد.. ملحمة الوفاء وتاج العزة للوطن