هناك اعتقاد سائد - ربما يشوبه بعض الوهم – لدى المواطن في الغرب بانه قادر على فعل أي شيء. ويناظره اعتقاد سائد لدى المواطن العربي بانه غير قادر على فعل أي شيء، وربما يخالط هذا الاعتقاد الأخير بعض الوهم أيضا. ما يشغلني هنا هو سبب هذا الاعتقاد المزدوج المتناقض سواء لدى المواطن الغربي أو نظيره في عالمنا العربي. ولعل هناك عدة مداخل لتفسير حالة العجز التي تبدو مزمنة لدى المواطن العربي نخبة وأفرادا من المحيط الى الخليج.
من اهم المداخل التي تتردد على السنة الكثيرين لتعليل العجز العربي وبأقلامهم: السلطوية السياسية وسوء توزيع الثروة والصراع الأصولي - العلماني وغياب الحريات، بل ربما يجنح البعض إلى الإشارة إلى مؤامرة دولية وإلى وجود إسرائيل الفعلي في المنطقة كعائق للجهود الوحدوية الإقليمية العربية.
ربما كانت هذه التبريرات ذات مصداقية في غالبيتها، الا انها في نظري محاولات لتبرير العجز المزمن اكتر من كونها محاولات لتفسيره. والفرق بين التبرير والتفسير جلي واضح.
فضلا عن ذلك، فإن هذه العلل لا تنفذ عمقا في سبر أغوار الأزمة وتعليل العجز سواء على مستوى النخبة أو المواطن الفرد، أو حتى إيضاح مكامن العجز على مستوى الوعي الجمعي إذا استعرنا بعض من أدوات الطبيب النفسي السويسري المشهور كارل يونج. الأزمة التي تغذي حالة العجز العربي منذ مطلع عصر النهضة العربي في منتصف القرن التاسع عشر، بل وقبل ذلك بمئات الأعوام ناتجة عن تفشي ما يسميه الخبراء الذين أشرفوا على كتابة تقارير التنمية البشرية العربية "الفقر المعرفي" knowledge poverty. بالعودة الى تلك التقارير، وجدت أن التعريف كما هو مستخدم قاصر على توصيف نسبة الأمية ونسبة استخدام الانترنت ونسبة المطبوعات والمؤلفات في كل بلد عربي على حدة ونسبة الترجمات من اللغات الأخرى وأخيرا متوسط عدد ساعات القراءة لدى المواطن العربي (6 دقائق في العام).
هذه المؤشرات كلها كمية وهي ذات دلالة لا يستهان بها في تقدير فداحة الفقر المعرفي في عالمنا العربي، بل أنني سأستخدم بعض تلك المؤشرات الكمية في هذا المقال الذي سأشير فيه الى ثلاث مؤشرات/ علل تغذي حالة "الفقر المعرفي" ومن ثم العجز العربي المزمن.
لقد اجتهدت قليلا للتوصل الي تعريفات غربية معاصرة للفقر المعرفي كحالة شاملة للمؤثرات الكمية بالإضافة للمؤثرات غير الكمية والتي تعتمد على العوامل النفسية والتربوية، ولكن لم اوفق للوصول لتعريف غير كمي. فالدراسات الغربية المعاصرة تربط بين الفقر المعرفي والفقر الاقتصادي. لا شك ان هناك روابط متينة بين الاثنين لا سيما في قضايا مثل أولويات الانفاق لدى المواطن في العالم الثالث. لكن هناك جوانب نفسية وتربوية عديدة الي جانب المؤشرات الاقتصادية. فمثلا تأصيل عادة القراءة لدى النشء هي في الأساس ذات بعد نفسي تربوي. وربما اقترب بعض الكتاب الماركسيين من المفهوم النفسي التربوي في الحديث عن ما يسمى في الادبيات الماركسية "بؤس المعرفة" ولكن سياق الحديث هنا ليس عن فقر المعرفة بقدر ما هو عن خطورة استخدام "المعرفة الخاطئة" في المجتمعات الصناعية الغربية. وهذا سياق مختلف قليلا عن مقصد هذا المقال.
يمكن هنا الحديث عن ثلاثة مؤشرات /علل أساسية تزيد من حالة الفقر المعرفي ومن ثم العجز العربي. من المؤشرات/ العلل الأساسية النقص الشديد في مصادر المعرفة واهتراء مؤسسات التعليم العالي وتدني مستوى الحرية الفكرية داخل المؤسسة الاكاديمية وخارجها.
نقص مصادر المعرفة
بادئ ذي بدء، لا يمكن الفصل المتعسف بين الدوافع الاقتصادية والدوافع المعرفية. فبين الأزمة الاقتصادية والأزمة المعرفية مساحات واسعة يمكن التحرك خلالها. حتى إذا افترضنا أن غالبية المصريين او العرب أصبحت لديهم القدرة على الاستخدام والنفاذ إلى الانترنت أو الشبكة العنكبوتية، فان الانترنت حتى مع أعتى تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لا يكفي لبناء تراكم ثقافي يحد من تفاقم ظاهرة "الفقر المعرفي" وذلك لطبيعة وشكل المعلومة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي الذي يفتقر حتى الان لمحاكاة كاملة لما يسمى بالإبداع البشري. فالمعلوماتية تنتج علما ولكن لا تنتج معرفة، لان المعرفة هي نسيج فكري مادته المعلومة. أما نسج هذا النسيج فيتطلب إبداعا وفكراً نقديا لا يزالان غائبين حتى عن الكثير من النخبة الثقافية نفسها.
الأزمة الحقيقية هي في غياب المطبوعات المحفزة على الحوار والفكر النقدي الذي يراكم معرفة لا مجرد معلومات، فالمعلومات فقط لا تساهم الا في بناء نسخة بشرية مشوهة من الذكاء الاصطناعي يعتريها النقص البشري. أما بناء المعرفة فيقوم على جناحين: حوار الأفكار والفكر النقدي. من هنا أقول لدينا نقص كمي (قارن عدد الصحف والمجلات في مصر في أربعينيات القرن العشرين وعددها الآن) ونقص كيفي (مضمون الحوارات والقضايا المثارة في هذه المطبوعات) في مصادر المعرفة المتاحة للمواطن العادي.
أما بالنسبة للنخبة، فان المثقف يعوض هذا النقص باستخدام الانترنت نفسه لاقتناء مصادر من الخارج أو من خلال رحلاته إلى الغرب التي يكفلها له منصبه الأدبي والوظيفي. هكذا تزداد الهوة بين فقراء وأغنياء المعرفة. ولو قضى رجل الشارع العادي ثلاثة أرباع يومه أمام الانترنت فلن يردم هذه الفجوة أبدا.
لا أستطيع الإشارة إلى اختفاء المطبوعات الحوارية النقدية كمؤشر أساسي لنضوب مصادر المعرفة إلا في حدود معرفتي بوطني مصر. وإليكم بعض الأمثلة. في أواسط التسعينيات ظهرت مطبوعتان على قدر عالي من المضمون المعرفي الراقي في مصر. وهما الآن في حكم العدم، وأقصد مجلة سطور ومجلة وجهات نظر. أيضا توقفت مطبوعتا مختارات إيرانية ومختارات إسرائيلية اللتين كانتا تمدان المواطن المصري بآراء عميقة عن هذين الدولتين ذواتا التأثير المباشر في السياسة الخارجية المصرية. أيضا لم تعد تصل الى مصر المجلة العلمية الرصينة "المستقبل العربي". وهناك عدة مجلات لبنانية على مستوى راقٍ جدا لم تعد تصل الى السوق المصري من أهمها " الكلمة " و " الحياة الطيبة."
اهتراء مؤسسات التعليم العالي
لست اول من يتحدث عن هذا الموضوع ولن أكون آخرهم. هناك ثلاثة أوجه لاهتراء مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي. أولها هو التعسف وضعف المستوى الأكاديمي وانتقال الخبرات عبر الأجيال. والمقصود بالتعسف هو التعنت بدون مبرر أكاديمي في منح الدرجات العلمية. ثاني هذه الأوجه متعلق بالعلاقة المغلقة بين الجامعة والمجتمع من جهة وبين صانع القرار من جهة أخرى. أما الوجه الأخير وهو تدني الحرية الأكاديمية، فسوف أرجيء الحديث عنه إلى تناول المؤشر/ العلة الثالث لظاهرة "الفقر المعرفي" وهو المتعلق بتدني الحرية الفكرية.
لا شك أن ضعف المستوى الأكاديمي في مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي هو سبب ونتيجة في ان واحد لظاهرة الفقر المعرفي. في لحظات نهوض مصر في العصر الحديث كان قادة الرأي أمثال طه حسين وأحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق وغيرهم، هم في نفس الوقت أعضاء هيئات التدريس في الجامعة. وكانت الحدود الفاصلة بين المجتمع والجامعة اقل تحديدا وصرامة بكثير مما هي عليه الآن. فكان المواطن العادي يستطيع ان يحضر محاضرات عام في الجامعة، بل وأحيانا يسمح له بارتياد المكتبات الجامعية. لم تعد الجامعة متلاحمة مع المجتمع وأصبح الجامعيون في أبراج عاجية، بينما ينبغي لهم ان يكونوا قاطرة التنوير، وهذا هو الوجه الثاني من اهتراء المؤسسات الجامعية. ويلازم هذا الوجه قضية انفصال الجامعة عن صانع القرار الذي قلما يقرر الاستفادة من عشرات آلاف الرسائل الجامعية في مختلف التخصصات بإدراجها في سياساته. وهذا يعمق ظاهرة الفقر المعرفي هذه المرة على مستوى النظام الحاكم وليس فقط المواطن.
تدني مستوى الحرية الفكرية
حين تغيب القضايا الكبرى تتصدر المشهد التفاهات. الحرية غائبة بمستويات متفاوتة في المجتمعات العربية إلا أنها ليست غائبة تماما. بيد أن القدر المتوافر منها لا يمكن أن يقضي على ظاهرة الفقر المعرفي بل هو يعمقها. وغياب الحرية غير قاصر على الحيز السياسي بمعنى معارضة النظام الحاكم، ولكن الحرية غائبة في أبسط مستوياتها لدى الفرد في الاسرة وفي العمل وداخل أسوار الجامعة والتي لن تستطيع ان تستعيد ريادتها الفكرية إلا من خلال ممارسة الحرية الاكاديمية. و حين تغيب القضايا الكبرى بسبب تدني الحرية الفكرية عن الجامعة والمجتمع تتضاءل الحرية أكثر ويتغول الفقر المعرفي، مثلما شاهدنا في قضية نصر حامد أبو زيد في أواخر التسعينات حين تحولت الجامعة الى محكمة تفتيش وتحولت النيابة الى مأذون شرعي.
ثلاث قضايا متعلقة بمنسوب الفقر المعرفي في المجتمع صعودا وهبوطا رأيت من خلالها ان هذا المفهوم، الذي يحتاج لمزيد من الاشتغال عليه، يصلح لتفسير حالة العجز العربي المزمن. ولعلي لم أستوف جميع جوانب الموضوع. حسبي إن كنت بادرت بمدخل للمزيد من التعميق والسير نحو الإصلاح المنشود لمجتمعاتنا العربية.
----------------------
بقلم: محمد الأنصاري