06 - 05 - 2025

في صالون عرفات كانت لنا حكايات (4): ربّ الدّبابة والقافية (توفيق علي منصور الجنرال المترجم الأديب)

في صالون عرفات كانت لنا حكايات (4): ربّ الدّبابة والقافية (توفيق علي منصور الجنرال المترجم الأديب)

الحكمة قد تخيبُ أحيانًا: حكمةٌ تعلّمتُها، ولكنَّها خابَتْ مع الجنرال الأديب: لا ترفع سقف طموحاتك في تقدير قيمة الأشخاص؛ لأنّ ما يشاع عنهم بعضه حكايات وأكثره أساطير"؛ ففاوست باع نفسَهُ للشَّيطان مقابل وَهْم تعلُّم الفنون والعلُوم والسِّحر، ومنحه أسرار مباهج الحياة...!

الصُّورة الذّهنيَّةُ والواقعيَّة للفارسِ الشَّاعر الإنسان: عرفتُ المترجم الكبير توفيق علي منصور من خلال ترجماته البديعة لفاوست، والمذبحة في باريس، وفينوس وأدونيس، ولصداقة كبيرة تربطني بالأستاذعلي حسن الناشر الكبير صاحب مكتبة الآدابالذي نشرت عنده ما يقرب من عشرين كتابًا، وجدته متحمّسًا لنشر كلّ ما يكتبه منصور من ترجماتٍ وإبدعات شعريّة ونثريَّة، وفي مكالمة جرت بينهما في حضوري وجدته يراوح في اللقبِ فيحدّثه تارةً بالدكتور، وأخرى بسيادة اللّواء، وبعد المكالمة أحاطني أحمد حسن معرفةً بسيرة  المترجم الأديب، ووجدته متحمّسًا في  الحديث عنه، مع كونه أكثر النّاس دقَّة وتمهّلًا في الحكم على الآخرين، أو المبالغة في تضخيم شخصٍ أو المبالغة في إنجازاته، بل علّمته ثقافته الفرنسيَّة الدّقّة، وعلّمته خبرته الطّويلة في عالم النّشر وخداع المثقّفين التّردّد والتّمهُّل.

بطولات عسكريَّة وحكاياتٌ خاصَّة لصالون عرفات: بعد ما يقرب من عقدين من الزّمان فاجأني الأديب الكبير محمود عرفات بأنَّ اللِّوَاء الدّكتور هو ضَيفُ، الصَّالون في أكتوبر 2023م؛ بوصفييه: أحد فرسان أكتوبر وجنرالات العسكريَّة المصريّة، ومفخرة سلاح المدرّعات، والأديب الكاتب المفكر المترجم الشّاعر، ومنذئذٍ والضّيوف تتبارى للحضورِ لهذه الشّخصيّة التي مازلتُ أخشى أن تفاجئني بخلافِ ما تتداخل هالات التّقدير شفاهيًّا من خلال أحاديث العارفينإيَّاه لصَداقاتٍ امتدّت عقودًا، أو من خلال المقدّمات الضّافية لمترجماته لكبار أساتذة الأدب في اللُّغات المختلفة؛ كمقدّمة  الأستاذ الدكتور عبدالسلام الشّاذلي، أستاذ الأدَبِ العربي، لترجمة منصور لروائع شكسبير؛ إذ يختم مقدمته بوصف منصور بأنه المحارب الجسور الذي دانت له الكلمة الشاعرة المجنحة والثّقافة الأدبية الواسعة، ومقدمة البروفيسور فتحية الفرارجي، أستاذ الأدَبِ الفرنسيّ لترجمة منصور لرائعة كريستوفر مارلو: المذبحة في باريس" ، بل إنّ الشّاعر الحسيني عبدالعاطي نفض غطاء فرش المرض، وسعى للحُضورِ متوكّئا على عكَّازين، واصطحبَ المبدعون إبداعاتهم، ووزّع إسماعيل حشّاد بعض ما لديهِ من مؤلفاتٍ تراثيَّةٍ نادرة احتفاءً بهذا الضّيف الكبير...!

وفي الموعد المحدّد بالثّانية دخل علينا لواء دكتور توفيق علي منصور (1931م- ) ممشوق القوام، بوشاحاته العسكريّة، ونظراته الموزّعة بانتظام ودقّة في المشاعر والسّبر، ومؤلفاته وترجماته المختلفة عن شكسبير، وفاوستوس، وكريستوفر مارلو، وإبداعاته الشّعريّة والقصِصيَّة، وسيرته الذّاتيَّة التي تكثّفُ رحلة تسعين عامًا من الكفاح والنّضال والاختراعات الهندسيّة في مجال تطوير الدّبابة العسكريّة في سابقة أذهلت  الرّوس الذين صنعوها؛ فأخذوا بتطويراته، وسمّيت القاذفة الجديدة باسمه، وقد كانت أبعد مدى، وأكثر دقَّة تشبه أحلامه الشّعريّة الجامحة التي تجاوزت الإبداع العربيّ إلىالإبداع العالميّ، وكما عدّل من الدّبابات الرّوسيّة عدّل وجهات النّظر النّقديّة حول الأساطير الرّومانيّة، وبخاصّة" أُسطورة فينوس وأدونيس"، التي أعاد ترجمتها شعرًا بشعر أكثر سحرا ورقَّة ودقّة، ليعيد إليها روحها الشّرقيَّة الأصليّة التي استلهم منها ويليام شكسبير وغيره من شعراء الدّنيا، ومأساة دكتور فاوستاس لكريستوفر مارلو ليثبت تفوقه، وإخفاقات شكسبير الدّائمة في تقليده، ويؤكّد منصور ذلك من خلال مقدمة نقدية وترجمة شعرية دقيقة من بحر المتقارب ليفصح عن الأسرار الخفيّة لهذا النّص الذي أبهر العالم ودفع الآخرين للتّناص معه، ومحاكاته، والأخذ عنه، وإعادة إنتاجه شعرا ونثرًا حتّى جاء يوهان فولفانج جوتة شاعر ألمانيا العظيم فخلده بمسرجيته العظيمة دكتور فاوست.

منصور فارس ثورة التّصحيحِ الأدبيّ: ثمة مسلّماتٌ في الأدب العالميّ نجد د. توفيق منصور مُولعًا بتصحيح أخطائِها، حريصًا على ردّ الحقوق إلى أصحابها؛ بوصفه مقاتلًا شُجاعًا، حضرَ الحروبَ العربيَّةَ بداية من حرب 1948م وصولا إلى نصر أكتوبر العظيم؛ فقد صمَّم أن يترجِمَ مسرحيَّةَكريستوفر مارلو:" المذبحة في باريس" بمقدِّمة نقديَّة يلحّ فيها على سبق مارلو شكسبير، ومحاولات الأخير الأخذَ عنهُ، وإعادة إنتاجِهِ، وتقليدهُ، والإلحاح في ذلك، وإن ظلَّ مارلو هو البصمة الأصيلة الرّاسخة العبقريَّة التي لم تنل حظّها، ولم يبعد مداها كما بعد مدى قذائفِ شِكسبير؛ فحاولَ منصورٌ أن يعيدَ مدى دبابة مارلو لتصبح أطول مدى، وأكثر تأثيرًا في محاولات جسورٍ عزَّ أمثالُها.

هذه الروح الشّاعرة الأصيلة هي التي صاغت شخصيَّة منصور، ومنحتهُ من أسرارها تمكُّنا من أدواتِ الشِّعرِ بلغته العربيَّة، بوصفها ابنا شرعيَّا لأيناء مدرسة ثورة 1919م، بطموحاتهم في أن يكون المتعلِّم المصريّ ذا هُويَّةٍ شرقيَّةٍ راسخةٍ أصيلةٍ من خلال امتلاكهِ لمفرداتِ ثقافتهِ العربيَّةِ من حفظٍ للقرآنِ الكريم، ودراسةٍ للحديثِ الشَّريف، والموروثِ الشِّعرِيّ الثَّرّ، وإتقان العروض والقافية والنّحو والصّرف، إلى إتقان اللُّغاتِ الأجنبيَّة  التي اختارَ منها منصورٌ الإنجليزيَّة ليتخصَّصَ فيها، ويحصلَ فيها على درجتي الماجستير والدكتوراه، ويعيد للقارئ المعاصر بعض وجوه القوَّة التي شِهدها جيلُ السِّتينيَّاتِ من خلال التَّرجماتِ الرَّصينة لشوقي جلال وأحمد عتمان، ومحمد بدران، ومصطفى ماهر، وخليل كلفت، ومحمد عناني، وماهر شفيق فريد، وصالح علماني، وعلي المنوفي، وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.

ومع كلّ ذلك فمنصور ناثر أديبٌ، يتجاوزُ النَّزعة الوصفيَّة الكلاسيكيَّة الرّصينة إلى الكتابات السَّرديَّة في الفنّ القصصيّ؛ فقد نشرت له مكتبة الآداب عام 2014م مجموعته القصصيَّة :" أساطير وحكايات" التي قدّم لها بإهداء شعريّ، أيضًا، لحبيبتهِ الوحيدة، زوجهِ وأمّ أولادِه الحاجَّة عليَّة محمود أبو حُسين كما كتبه في الإهداء؛ ليشي من خلال نظمه الشّعريِّ الإهدائيِّ أنَّ هذه المجموعة من وحي حكاياتها الواقعيَة؛ إذ كانت أكثر حكمة واشتباكًا مع الحياة اليوميَّة بأسرارها الخفيَّة التي تنافس  وقوفِهِ على أسرارِ المدفعيَّة العسكريَّة، وإبداعات مارلو وشكسبير وأعلام الأدب الإنجليزي الذين شغلوه لأكثر من ثلاثة أرباع القرن.

وفي مجموعته القصصية لا تغيب عن منصور روح الفارس الذي خاض الحروب  الكبرى، وذاق ويلاتها، وانتصاراتها؛ فيستلهم بعض موضوعاتها من الأحداثِ التي عاشها، هُروبًا من مواضعاتِ  التَّقاليدِ العسكرية التي أجبرته على اختصار أحد كتبه عن أسرارها من ألف صفحة إلى مائتين؛ فيستلهم روح الشّهيد في قصة نادرة بعنوان "أم الشّهيد" يجمع فيها بين الإبداع الحرّ، والتَّضفيريّ السّيريّ،إلى أن يسمّي بعض الشّخصيَّات بأسمائها الحقيقيَّة (ص102):" ليسَ أَحقُّ بالتَّقدير من أُمّ الشّهيدِ التي ضَحَّتْ بفلذة كبدها فداءً للوطنِ، والشّهداء يشهدون حفلنا هذا قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169)، وأُمّ الشَّهيدِ نشيدٌ نتغنَّى بهِ جميعًا، وضع كلماتهِ الشَّاعر منصور، ولحَّنه الملازم بهجت، وتؤدّيه مجموعة أبطال الجيش الثَالث الموسيقيَّة".

* كان لافتًا أن تبدأ حركة الشّعر العربيّ الحديث بجنرال عسكريّ يعيد إحياء مواته، ويضيف إليه من روحه ما يبعث رماده قصائد كلاسيكيَّة، قادرة على أن يؤسس عليها أمير الشّعراء شوقي، وزميله الجنرال الآخر محمد حافظ إبراهيم، وتأخذ هذه البداية القويّة في شُحوبٍ لما أصابَ الأجيال التَّالية لها من تاثُّرٍ بالغرْب في موجات الشِّعر الرّومانسيَّةِ، إلى أن انتقل إلى الأمريكتينِ، لتختطفَهُ تيَّاراتُ الواقعيَّةِ في اتِّجاهٍ مُعاكسٍ؛  إلى قصيدة التَّفعيلة، فقصيدة النَّثر إلى أنْ ضَعُفَتْ ذُبالةَ الشِّعر؛ فتتوهّجُ حينًا وتخبُو أَحيانًا.

* وفجأةً، يظهر لنا جنرال آخر بقوة الفارس الأوّل، وإن اختلفَ السِّياقُ العاجزُ عن صناعةِ النُّجوميَّة الحقيقيَّة؛ أعني اللّواء دكتور توفيق علي منصور الذي لفتَ أنظار المفكّرينَ بكتابه الصَّادم عن أسرار نكسة يونيو الذي يربو عن ألف صفحة، فأثار لغطًا كبيرًامن المتذمّرين، مع أنّه يدافع فيه عن القوات المسلّحة المصريّة؛ فيعلن أنَّ جيشَنا كان ضَحيَّة لصراعات مراكز القوة، ولبعض رؤوسِهِ الفاسِدَة، لا سيَّما شمس بدران، وعبدالحكيم عامر، فضلًا عمّا أحدثَهُ صلاح نصر من شروخ في جدار الشَّخصيَّة المصريَّة.

* جيشنا لم يهزم في يونيو 1967م: في صالون عرفات كانت مفاجآت اللِّواء توفيق منصور عن أسرار حرب يوليو التي شهدها، وكان أحد الضّبّاط المميّزين، ويرى أنَّ القوَّاتِ المسلَّحة لم تهزم في يونيو 1967م، بل هزم القادة الفاشِلون، وراح الجنودُ ضحايا لنزاعاتِ الطّامعين في السُّلطةِ والقيادة...!

وحكى منصور بطولات حقيقيَّةَ نادرةً ومذهلةً، قامت بها القوات المسلّحة في الدفرسوار، وفراسكور، ورأس العِشّ، والعريش، وكان هو أحد شهودها العيان، بل أحد فرسانها الصّناديد، طوال حرب الاستنزاف، كما عقد موازنة بين ما حدث حقيقة على أرض الواقع في تدمير المدمّرة الإسرائيليَّة إيلات، وما جاء في الفيلم الذي أخرجته المخرجة القديرة إنعام محمد علي، متحيّزًا للواقع العسكريّ الذي كان أكثر إعجازًا وتعجيزًا عن الإلمام به في فيلم سينمائيّ محدود بقرارات شتّى وزمن محدودٍ...!

ومن الطّرائف التي حكاها منصور أنَّه ومجموعة من زملائه فكّروا في أن يستقلّوا سيارة في خدمتهم ويذهبوا إلى السِّينما لمتابعة أحدِ الأفلام العالميَّة التي فَتَنَتْهم، حِينئذٍ؛ نوعًا من التّرفيه وملاينة الصَّحراء التي طالتْ نظراتهم إليها، والاستماع إلى صمتها الذي يطول بمعانٍ، تبوح بها حينًا، وتُلغِزُ أحيانًا في مشاعر مختلطةٍ من الرّهبة والهيبة والألفة.

هكذا جاءت ليلة اللواء دكتور توفيق علي منصور ليلةً محمَّلةً بالحكاياتِ معَ فارسٍ من عَصرِ الأساطيرِ،  في حضورٍ أخّاذ لشابٍّ في التّسعينَ، يستحضرُ أمامك التّاريخ العَسكريّ والثّقافيّ لمصرَ وللعالم العربيّ الذي رفده بكثيرٍ من المشاريع العسكريَّة والأدبيَّة والاختِراعاتِ والاكتشافات المذهلةِ لشاعر لا يبعده عالم الأحلام والأساطير والرّؤى الشّعريّة الحالمة عن مواجهة الواقع في قدرةٍ بارزةٍ فذّة لتحويلِ كلّ هزيمةٍ إلى نصرٍ، وكلّ بيئةٍ قاحلَةٍ إلى منتدًى ثقافيٍّ تحلّقُ فيهِ طيورٌ من كلّ ألوانِ الفكرِ والفنّ مسرحًا وشِعرًا ونقدًا وقصًّا وسردًا سيريًّا ملهمًا لأجيالٍ كثيرة تعيد وجه مصر التي في خاطرهِ، وفي خاطرنا كلّنا؛ لذا لم يكن عجبًا أن تكون الفقرة الفنيَّة التي يختارها الضّيف في بدايةِ الصَّالُونِ رائعة: "مصر التي في خاطري" لِلشَّاعرِ أحمد رامي، ولحن العبقريّ رياض السّنباطيّ، وبغناء مميَّز لسيدة الغناء العربيّ، وهو ما جعلنا نعيش ليلةً مقمرةً تعيدُ لنا أُكتوبر الذي طمحنا جميعًا أن تعود روحهُ إلينا في كلّ مناحِي حياتنا المعاصرة.

لقد جاءت صورة منصور الحقيقيَّة اكثر تقديرًا وغبهارًا من صورته الذّهنيَّة التي كوّنتها لديّ المرويَّات الشّفويَّة والمقدّمات النّقديّةِ؛ فدعوت له من كلّ قلبي أن يمدّ الله لهُ في عمرهِ، وأن يستكمل مشروعه المجنّح بجناحي الفارس الأديب.

سرُّ ثمانين عامًا من الإبداعِ والتَّحليقِ: سألت الجنرال الأديب في ختام الجلسة: هل كان لحياتك العسكريّةِ، وبطولاتك الرّياضيَّةِ، ودراساتك في الأدب المقارن، وإبداعاتك الشّعريَّة والسَّرديَّة، وتقدير المثقّفين والأكاديميّن بالكتابة عنك درسًا وإبداعًا، وفوزك بجوائز عدَّةٍ عسكريَّة ورياضيَّة وأدبيَّة؛ كان آخرها جائزة رفاعة الطهطاوى للترجمة، عن ترجمتك العربيَةِ البديعةِ لكتاب "نهر النيل.. مشاركة فى مورد نادر" تأليف نخبة من الباحثين،  الذي حرَّرهُ بىبى هاويل وجى الآن، دورٌ في نشاطك الموفور بالكتابةِ والإبداع في هذه السّنِّ؛ فأجابني بجملة واحدة: بل هو الحُبُّ الذي أستمدّ من كنزه الذي لا ينفد أبدًا ولم يخذلني مطلقًا...!
--------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش