01 - 06 - 2025

في صالون عرفات كانت لنا حكايات (2): أحمد الشَّهاويّ السَّاحرُ بلا حِجَابٍ

في صالون عرفات كانت لنا حكايات (2): أحمد الشَّهاويّ السَّاحرُ بلا حِجَابٍ

استضاف صالون عرفات  الشَّاعر والصّحفيّ والرّوائيّ أحمد الشّهاوي الذي صحبته الآلة الإعلاميَّة؛ بوصفه شاعرًا ذا مشروعٍ شعريّ له ملامحُ خاصَّةٌ، وبصمة أسلوبيَّة متفرّدة، وروح صوفيَّة متوهّجة، وشخصيَّة آسرة، يملك حضورًا مشعًّا قادرًا على أن يجذب كلّ الحاضرينَ بحسن حديثهِ، وغريب طرحهِ، وحماسهِ المتّقدِ، وتوجّهاتهِ التي  يقفزُ من خلالها في عوالم من الأحلام، سرعان ما تتحوَّل إلى واقعٍ.

كانت أكبر مثيراتِ الدَّهشةِ التي تحفظها ذاكرةُ جيلنا للشَّهاويّ أنَّ ديوانيه:"الأحاديث بِسفْرَيهِ 1999م"، و "الوَصَايا في عِشْقِ النِّسَاء"2003 م،  قد أَحدثَا دَوِيًّا ولَغطًا عَظِيمينِ، وطالبَ بعضُ المتشدّدينَ بمصادرَةِ الدِّيوانِ الأَخير خاصَّةً بعدَ أنْ كتَبَ ضدَّهُ شيخُ الأزهر وقَئِذٍ الشيخ محمد سيد طنطاوِيّ رحمه الله، وسانده آخرون دون  أن يقرأ بعضُهم الدِّيوانِ، ودُون أن يمتلكَ معظمُهم القدرةَ على سَبرِ تجربةِ الشَّهاويّ الخاصَّة بما يعتمدهُ من شَحنٍ خاصّ للمفردَاتِ، وتثوير للدَّوالِّ بما يجعل له مُعجَمًا شِعريًّا فريدًا، ولا سيَّما بعدَ  أَنْ نَشرتْهما مكتبةُ الأُسرةِ في مشروعِ القراءةِ للجَميعِ...!

ومن ثمَّ، التفتنا إلى معجم مختلفٍ لشاعرٍ مختلفٍ يكتبُ عبارةً شعريَّةً واحدةً مربكةً: "مياه في الأصابع" عنوانًا لديوانِهِ الذي يضُمُّ سِفرينِ من الأحاديثِ مخالفًا ما احتفظت به ذاكرة الشّعريَّة العربيَّة حول هذا التّركيب في البيت الشّعريّ الشّهير لمجنون ليلى:

فَأَصبَحتُ مِن لَيلى الغَداةَ كَقابِضٍ       عَلى الماءِ خانَتهُ فُروجُ الأَصابِعِ

أو البيت المنسوب لعلي بن أبي طالبٍ:

وَمَن يَصحَبِ الدُنيا يَكُن مِثلَ قابِضٍ       عَلى الماءِ خانَتهُ فُروجُ الأَصابِعِ

وقد توقف البلاغيون والنقاد على كثرتهم في تأمّلات متكررة لبيت المجنون لكونه ركّز على تشبيه استحالة الشيء باستحالة بقاء الماء بين الأصابع؛ فقال الفرزدق:

فَأَصبَحتَ مِمّا قَد مَنَعتَ كَقابِضٍ       عَلى الماءِ لَم تَقبِض عَلَيهِ أَنامِلُه

فالمياه تخون فروج الأصابعِ، وهذه طبائع الأمور، ولكنه لدى الشّهاويّ في الأصابعِ؛ لأنه غارق في المياهِ؛ كما يبثّ صاحبته رسالتهُ:

 قُرْبِي

سَتحملينَ وقتًا أنتِ خالقةٌ لهُ

سَتَلمَسِينَ الشَّمسَ مِنْ طَرَفٍ

أَنَا مَدَاهُ ومَولِدُهُ

وفي يدي انسِي الكلَامَ

اِنسِنِي

فأَنَا أُحَدِّدُ عَالمِي بالماءِ

أو بالطَّائِرِ المتكلّم

راقبي الأرض

وهي تمشِي

ففيها سِيرَتِي

وكَلَامِي عَنْ حَنِينِ الأَرْضِ لِي

فيها شُموسِي

وشَرَابي مِن مِيَاهِ أَنامِلِي

....

غارقًا في الماءِ كُنتُ

جَسَدِي قصِيدةُ شَارِدٍ

ويدَاي مَأْوَى عارفٍ

يَبْغِي غيابَه"

نعم، أحمد الشَّهاويّ شاعرٌ مختلفٌ بكلِّ ما تحملهُ كلمةُ الاختلافِ من معانٍ؛ فهو أكثرُ شُعراءِ المنطقةِ العربيَّةِ الآنَ توزيعًا على مستوَى النَّشر والتَّوزيع، بحسبِ تقاريرِ دار النّشر التي تطبع شعره؛ أعني الدَّار المصريَّة اللّبنانيَّة، وكذا أكثرهم ترجمة إلى اللغات الأجنبيَّة، بل إنَّه ينتشر في أمريكا الجنوبيَّة، وجذبت شاعريتهُ الثقافاتِ المشرقيَّةَ؛ كما نجد من تأثير واضحٍ لشعرِهِ في الهند وقد فاز بجائزةكاثاك الأدبيَّة لعام 2024م، تقديرًا لشعريَّتهِ.

 وقد أخلص الشّهاوي للحديث عن العشق وفنونه وضروبه ومآلاته بصورة تجمع بين الوجد الصوفي والعشق العربيّ الذي تفرد فيه العشَّاق فيما حوته كتب الحبّ المغبونة؛ فلا غرو أن  نجد طبعات متعددة لكتابه: " أنا من أهوى 600 طريقة إلى العشقِ"؛ فيقول في الطريقة الستين التي تمثّل مسلكه:

الحُبُّ كاللُّقى ابن المصادفاتِ والسَّعي

وأكثر ما يفسِدُ الحبَّ هو التّكلُّفُ والادّعاء والكذبُ والرِّضَا بالمقْسُومِ

وما الكتابةُ إلَّا اِبنةُ شَرعيَّةٌ للحُبّ". 

ويردفها بدستوره في كتابة العشق:

المرأة التي تُحبُّ شَاعرًا لا يقِفُ الموتُ على بابِها

والشَّاعرُ الذي يُجبُّ امرَأَةً لا ينفدُ بَحرُهُ من لُغةٍ وخيالٍ".

مع أنَّه في كتاب الأسرار التي همس بها لمريديه حول العشق والتّصوفِ في كتابه: "لا أراني" يراوغُ كلّ مريديه، ويصمم أن يصدمهم في كلّ ما اعتقدوا أنَّهم فهموه من أحاديث القُطبِ الشَّاعر؛ فيحدّث أمَّه نوال عيسى، التي اعتاد أن يهديها أعمالهُ، هكذا:

لَمْ آخُذْ شَيئًا منَ الشّعرِ

سِوَى مَنخُلٍ منَ الماءِ

ولمْ آخُذْ منَ العِشقِ

سِوى أملٍ من الخُسرانِ"

ومع ذلك يعرّفُ نفسهُ في ديوانه: "ما أنا فيه" على أنَّه من العارفين الذين يبوحون بذنوبهم وكبائرهم، بل إنَّه قد حمل كلَّ آثام الحجيجِ وخطاياهم لتصيرَ حروفُ اسمه أثقل من جبلِ الخطايا؛ فيرسم صورتَهُ الملوَّنةَ بالكلماتِ هكذا:

صَحِيحٌ أنَّ اسمي أحمد

وحرُوفي هيَ الأَلْينُ

لكنَّها في الحقيقةِ تَصِيرُ أثقلَ مِنْ جَبَلٍ

حَمَّلَهُ الحُجَّاجُ  ذُنوبهم البريئة"

وهكذا تظَلُّ هذه المراوغةُ ويتصاعدُ الانفلاتُ لطائرِ الشِّعر المحلِّقِ:

صحيحٌ أنّي كتابُ حُبٍّ نادرٌ

لكنّي قَدْ أَحرِقُ الورقَ كلَّهُ"

 هكذا يظلُّ أحمد الشّهاويّ في مراوحة دائمة لا يقرّ له قرارٌ؛ فهو كشعره في جموحه وتحليقه وارتحالاته إلى عوالم العشق والتصوف والرموز التي لا تهدأ إلى دلالة قارة إلا هدمتها ونفتها كدأبه في الهدم والمحو ليبني عالما مغايرًا؛ لذا يصدمك بكلّ ما يطرحه من رؤى وأفكارٍ وأحلام، ويستفزّك إلى مخالفته بمخالفة كل ما يمكنك أن تستقر عنده؛ ففي كتابهِ: "كن عاشقًا" ينقلك إلى مقام العشق بوصاياه المتتابعة التي يضفرها بين رؤى ذاتيَّة وتفاسير قرآنية وأحاديث نبوية ومقولات تراثيَّة؛ فيوصي من  مقام العارف:" أعرف أن النفس تبقى فارغة دون حبٍّ، وستظلّ ناقصةً وفقيرَةً ومحرومةً على الدَّوامِ إن لم تصادفْ هوًى يتمكَّن منها؛ فهي تحتاج إلى أن تشبع؛ إذ يضربها الجوعُ كلَّما مرَّت ثانيةٌ على حديقتها البائرة الجرداء إلا من أشجارٍ لا تسرُّ النّاظرين، والنَّفسُ في حالٍ كهذهِ تكونُ غريبةً في الحياةِ التي تعيشها في الدّنيا الواسعة".

ولم يتوقّف الشهاوي عند هذه الفيوضات التي تفيضُ شوقًا وعشقًا وجذبًا في نصوصه المستعصية على  التَّجنيس الأدبيّ بمفاهيمهِ التّقليديَّةِ الكلاسيكيَّة، ولا يتناصّ بطريقةٍ يمكنُك حدُّها بل يجمعُ بين الامتصاصِ والباروديا والهدمِ في أحيانٍ كثيرةٍ؛ لأنَّ أهمَّ ما يميّزُه هو عشقُ الحروفِ والكلماتِ وغواياتهِ في البناءِ والهدمِ، والمراوغةِ والتّخفِّي، والوضُوحِ والإعلانِ والإضمارِ، والكشْفِ والحَجْبِ؛ ممَّا جعلَ له جمهورًا عاشقًا يستشعرُ تناقضاتِ العالمِ والنّفس الإنسانيَّة في شِعره، الذي لا يتوقّفُ عندهُ، بل يجاوزه إلى المقالات الصّحفيّة التي تثير الأسئلةَ أكثر مما تقدّم إجاباتٍ؛ بوصْفهِ شاعرًا يكتب المقالَ، وهو أيضًا الشّاعر الذي خاض مجال الكتابة الرّوائيَّة بروح الشّعر ولغتهِ وتكثيفاتهِ ومراوغاتهِ التي أكسبتْ سردَهُ في روايتهِ الوحيدَةِ مذاقًا خاصًّا ينبئكَ عنهُ عنوانُها" حجَاب السَّاحرِ"؛  هكذا كانت ليلة الشّهاوي بحثًا عن حجابٍ لهذا السّاحر....!

أحمد الشَّهاويّ وديوان الشّعر المصريّ في ألفِ عامٍ:


أَشرتُ في المقال السّابق من هذه السِّلْسِلَةِ أن ّمن ثمراتِ الصَّالوناتِ الأدبيَّةِ والثّفافيَّة الكتبَ الموسوعيَّةَ والمشاريعَ اللُّغَويَّةَ والبلَاغيَّةَ والإبستمولوجيَّةَ الكُبرى؛ نَذْكرُ منها مجمعَ الأمثالِ للميدانيّ، المعمَّرون والوصَاياللسِّجستَانيّ، الأغاني للأصفهاني، عقلاء المجانين للنِّيسَابورِيّ، نشوار المحاضرة للتَّنوخيّ، و كتاب التَّطفيلِ وحكاياتِ الطُّفيليِّينَ وأخبارِهم ونوادِر كلَامِهِم وأشعارهم  للخطيبِ البغدَادِيّ، والجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي للمعافى بن زكريا، وغيرها كثيرٌ لعلّ أشهرَها الإمتاعُ والمؤانسةِ للتَّوحيديّ.

ومن ثمَّ؛ فقد شَهِد صالون عرفات لحظة ميلاد مشروع ديوان الشعر المصريّ لعرَّابِهِ، ومقترحهِ، الشَّاعر الحالم دائمًا أحمد الشّهاويّ، الذي استثارته وطنيّتُهُ المخلصةُ أن ينتفضَ ضِدَّ من زعموا زورًا وبهتانًا أن مصر كانت بعيدةً عن الشّعر العربيّ، وأن تأثير شعرائها في المخزون الشّعر العربيّ ضئيل بحيث لا يلتفتْ إليه، واثار الحديثُ شجوننا في جلسة صالون عرفات، وأدلى كلٌّ بدلوهِ والشّاعر العبقريّ  يسجّلُ الملاحظاتِ في عقلهِ بعدما كان قد سَجَّل بذرة المشروعِ، وداعميهِ، والمساندين لهُ بقوّة من الجهات الرّسميَّة في بعض القنوات التّلفزيونيَّة.

وبالرغم من أنَّني في موقف السَّائلِ دائمًا؛ لكوني مديرًا لِلصَّالونِ؛ فقد سألني الشّاعر الكبيرُ بحماستهِ المعروفةِ: بوصفِكَ أستاذًا أكاديميًّا، منْ مِن الأكاديميينَ نشرَ  كتبًا ودراساتٍ عن الأدبِ المصريّ؟ وما موقفُ هذا الأدب الآن في مقرراتكم الجامعيَّة؟

وقد شخذتُ طاقتي لأستجمع معلوماتي حول جهود عظيمةٍ بذلها كثيرٌ من الأساتذة الأكابر وصولًا إلى مجايليّ من الباحثين والدّارسينَ، وظلَّت المطارحات بيننا حتَّى انتهي الأمرُ بأنْ أشارك بكتابينِ في هذا المشروعِ العظيم؛ أحدُهما عن ظافر الحدّاد السّكندريّ، والثّاني عن ابن وكيع التّنيسيّ أوّل شاعرٍ مصريّ عربيّ.

ومن الطَّريف الذي لا حظته أنَّ أكثر الشّعراء المجيدين كانوا ممن اسمهم أحمد؛ كأحمد بن الحسين المتنبي، وأحمد بن عبدالله المعريّ، وصولا لأحمد شوقي، وأحمد رامي، وأحمد عبدالمعطي حجازي، حتى شعراء العاميَّة يأتي أحمد فؤاد نجم نسيج وحده بينهم؛ فتساءلتُ: إذا كان الأمر هكذا:  فلمِ جمع القفطي المحمدين من الشّعراء، وجمع محمد بن الجرّاح من اسمه عمرو من الشّعراء، ولم نجد من جمع من اسمه أحمد مع كونهم الأشعر ، والأشهر؟!
---------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش