إن العمل النقابي المستقل في مصر يمثل ركيزة أساسية للعدالة الاجتماعية، فهو ليس مجرد تجمعات عمالية، بل هو جوهر الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة وحمايتها من التفريط والظلم. على الرغم من دوره الحيوي، فإن هذا القطاع دائمًا ما كان هدفًا للتقليص والقمع من الأنظمة المتعاقبة، التي رأت في النقابات المستقلة تهديدًا للسلطة ولنفوذها، وعملت جاهدة على الحد من قوتها وإضعاف تأثيرها في المجتمع.
منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وحتى اليوم، كانت هناك سياسة ممنهجة للقضاء على العمل النقابي المستقل وخلق بيئة سياسية واجتماعية تجعل العمال في موقف الضعف التام. كان الهدف دائمًا هو تحويل العمل النقابي إلى أداة في يد السلطة، وليس مصدرًا للتغيير الاجتماعي أو الحقوقي. وهذا التوجه المستمر أصبح سمة ثابتة للأنظمة الحاكمة، ويظهر بشكل واضح في تجاهل وتضييق الحريات النقابية والتعددية العمالية، فبداية من معركة الخصخصة، مرورًا بثورة 25 يناير، وصولًا إلى فترة حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، نجد أن القمع ضد الحركة العمالية في تزايد مستمر، دون أن تظهر أية بوادر لتحسن الأوضاع.
في عهد مبارك، كانت النقابات المستقلة أشبه بالأحلام الوردية التي لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع، خاصة في ظل القوانين التي كانت تحد من قدرتها على تأسيس أي شكل من أشكال التنظيم النقابي المستقل. فقد كانت الدولة في ذلك الوقت تمنح الشرعية للاتحاد العام لنقابات عمال مصر، والذي كان بمثابة ذراع السلطة في قمع العمال وفرض السياسات الاقتصادية التي كانت تصب في مصلحة رجال الأعمال وأصحاب المصالح، في حين كانت الطبقة العاملة تدفع الثمن الباهظ نتيجة ضعف أجورها وسوء ظروف عملها.
ثم جاء قانون النقابات العمالية رقم 35 لسنة 1976، الذي قضى على فكرة التعددية النقابية، وأجبر العمال على الانضواء تحت مظلة الاتحاد الحكومي، ليبقى هذا الاتحاد ممثلًا زائفًا لمصالحهم. هذا القانون لم يكن سوى أداة أخرى لاحتكار السلطة على حقوق العمال، والتلاعب بمطالبهم التي كانت تُسحق تحت ثقل الاستبداد. وحينما بدأت الحركة النقابية المستقلة بالظهور في بداية التسعينيات، كان رد الفعل الحكومي هو القمع والملاحقة، وقد تجلى ذلك في منع تشكيل أي نقابات جديدة وإغلاق جميع المقرات التي كانت تحتضن تنظيمات عمالية مستقلة.
تأسيس النقابات المستقلة بعد ثورة 25 يناير كان بمثابة محاولة لاستعادة الحق في التنظيم والتعبير عن المطالب. حاول العمال استغلال المناخ السياسي الجديد لتحقيق طموحاتهم في النقابات المستقلة، لكنهم اصطدموا بحائط من القوانين التعسفية التي وضعتها الحكومة لمحاصرة هذه النقابات. فالقانون الذي أصدرته الحكومة في 2017 كان بمثابة عودة قوية لسيطرة الدولة على الحركة العمالية، حيث فرض شروطًا تعجيزية لم يسمح بها لإنشاء نقابات جديدة، بل جعل تأسيسها رهينًا بالموافقة المسبقة من الدولة، وهو ما جعل القيد على الحريات النقابية أكثر إحكامًا.
اليوم، ومع تزايد الضغط على النقابات المستقلة، فإن الحركة العمالية في مصر تعيش في ظل ظروف صعبة، إذ يتم قمعها بوحشية، ويتم ملاحقة النقابيين المستقلين في كل زاوية من زوايا البلاد. تُغلق مقرات النقابات، وتُلاحق القيادات النقابية، ويُعتقل كل من يرفع صوته دفاعًا عن حقوق العمال. وفي الوقت نفسه، تستمر الحكومة في دعم الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، الذي أصبح مجرد أداة إضافية لتمرير سياسات السلطة وضمان استمرار الاستغلال الطبقي.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد قمع لحركة نقابية، بل هو هجوم شامل على حق العمال في التنظيم والدفاع عن حقوقهم. القوانين التي تُسن، والقمع الذي يتبع، ليست إلا أدوات تستخدمها الدولة للسيطرة على العمال وتصفية النقابات المستقلة، وهي بذلك تضع نفسها في مواجهة مع الطبقة العاملة التي تعد العنصر الأهم في بناء هذا الوطن.
العمال في مصر ليسوا فقط ضحايا القمع النقابي، بل هم أيضًا ضحايا لسياسات اقتصادية جائرة أفقرتهم وهددت مستقبلهم. الأجور التي لا تكاد تكفي لتلبية احتياجات الأسرة الأساسية، وظروف العمل السيئة التي تؤثر على صحتهم وسلامتهم، إلى جانب غياب أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، كلها عوامل تضاف إلى قمع حرية التنظيم النقابي. إن استمرار هذا الوضع لا يمكن فصله عن القمع السياسي الذي يشهده الوطن، فغياب النقابات المستقلة يعني غياب صوت العمال، وغياب هذا الصوت يعني استمرار السياسات الاقتصادية الجائرة التي تزيد من الفقر والتهميش.
إن دعم العمل النقابي المستقل لا يعد مسألة عمالية فحسب، بل هو مسألة وطنية بالدرجة الأولى. فلا يمكن لأي وطن أن يتقدم أو يحقق العدالة الاجتماعية دون وجود حركة عمالية حرة وقوية تضع مصالح العمال في صميم اهتماماتها. النقابات المستقلة هي صمام الأمان لأي مجتمع، فهي تقف في وجه الفساد، وتدافع عن حقوق العمال، وتعمل على تحقيق توازن بين السلطة ورأس المال، وهو ما تحتاجه مصر في هذه الفترة الحرجة من تاريخها.
إلى كل من يتربعون على مقاعد السلطة في هذا الوطن، يجب أن تدركوا أن استمرار القمع ضد العمل النقابي لن يؤدي إلى الاستقرار، بل سيؤدي إلى انفجار لا محالة. العمال الذين يُحرمون من حقوقهم لا يمكن أن يبقوا مكتوفي الأيدي إلى الأبد. إنهم في النهاية سيواجهون الظلم بحركة جماعية قادرة على إحداث التغيير. إذا كنتم تعتقدون أن القمع هو الحل، فإن التاريخ أثبت أن الشعوب لا تُقهر إلى الأبد. لن تستمر هذه السياسة في فرض هيمنتها إلى ما لا نهاية. إن سحق إرادة العمال وحرياتهم النقابية سيؤدي إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي.
إلى العمال الشرفاء في كل مكان، لا تفقدوا الأمل. إن التاريخ يعبر عن أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعًا، وأنكم أنتم الذين ستبنون هذا الوطن على أسس من العدالة والمساواة. لا تتوقفوا عن النضال من أجل حقوقكم، لأنكم في النهاية من يحدد مصير هذه الأمة. أنتم العمود الفقري الذي ينهض به الاقتصاد والمجتمع، وأنتم الأمل الوحيد في بناء مصر قوية، عادلّة، ومتقدمة.
هذا الملف هو دعوة لكل فرد في هذا المجتمع ليتحرك من أجل الدفاع عن حقوق العمال. السكوت عن الظلم ليس إلا مشاركة في الجريمة. إذا كنتم تؤمنون بالعدالة، فالمعركة التي يخوضها العمال ليست فقط معركتهم، بل هي معركتنا جميعًا. إنها معركة وطنية لخلق مجتمع يضمن العدالة الاجتماعية لكل فرد، ويحقق التوازن بين كافة القوى السياسية والاقتصادية في الوطن.
--------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي