25 - 01 - 2025

مسرحية "الدور الأرضي".. صرخة من أجل التحرر

مسرحية

في مبادرة غير مسبوقة، اختارت مؤسسة بنت النيل المعنية بقضايا المرأة، المسرح كوسيلة لتوصيل رسالة مشروعها الأحدث لمناهضة العنف ضد المرأة إلى الجمهور، من خلال عرض "الدور الأرضي" وهو عرض مسرحي لفرقة مودن تياترو، وظفت فيه مفردات العمل المسرحي من إضاءة وديكور والتي امتدت لتشمل ترتيب مقاعد المتفرجين والمسرح، واستخدمت فيه أدوات جديدة مثل الرقص الحديث والحكي إلى جانب الغناء والتمثيل. والمسرحية جزء من مشروع أكبر للمؤسسة في إطار برنامج مناهضة العنف ضد المرأة، يشمل برامج توعية وورش عمل وحملات توعية، كما أوضحت مريم أيوب، مديرة المشروع في مؤسسة بنت النيل، في ختام العرض. وحسناً فعلت أسماء دعبس، رئيسة المؤسسة ومساعدوها، بالتفكير في أن يكون العرض المسرحي أحد أليات المشروع، على نحو يكشف عن الإمكانات الهائلة والدور الكبير الذي يمكن للمؤسسات والجمعيات الأهلية أن تلعبه في النهوض بقوى مصر الناعمة، في إطار مشاريعها ومبادراتها المجتمعية.

المسرحية، بذاتها، كانت مناسبة لإظهار ثراء مصر بمقومات القوى الناعمة في مجالات الإبداع المختلفة، بما في ذلك الفنون المرتبطة بالمسرح – أبو الفنون جميعاً - والتي وظفها بحرفية المخرج طارق عزت، وهو مخرج مبدع يدرك أن المعرفة والوعي أساسيين لأي عمل، ويجتهد لتطوير نفسه وأدواته، والأهم قدرته على الاستفادة من إمكانيات أعضاء فريقه والسعي لتوظيفها على أفضل وجه ليخرج عملاً كبيراً بإمكانيات بسيطة. هذا هو العرض الثاني الذي أحضره لفرقة مودرن تياترو المسرحية التي أسسها. العرض الأول كان عرض "سِفر الرؤيا"، الذي يقدم سيرة شخصية صوفية تجتمع فيها كل التناقضات، مولانا العابد العاصي التائب، مولانا الجويلي عيسي بن يونس حبيس الحوت، وهي عمل مسرحي عرض الصيف الماضي تحت عنوان "مشروع صوفي"، سعى المخرج من خلاله إلى تفكيك الأسطورة التي تبنى حول سيرة واحدة من الشخصيات الصوفية من قبل أصحاب السطوة والنفوذ، والتفتيش في جذور وأصل هذه الأسطورة في تاريخنا. 

العملان معاً يكشفان ملامح في مشروع طارق عزت المسرحي الذي يتلخص في كلمتين، "الحق والحرية"، والذي ينم عن الإيمان بأن رسالة المسرح هي التحفيز على التفكير النقدي وعلى التغيير الذاتي والمجتمعي. ويقدم العرض الثاني، وهو عمل إبداعي مشترك بين المخرج وأفراد الفريق من ناحية، ومؤسسة بنت النيل من ناحية أخرى، نمطاً جديداً للأعمال المسرحية أقرب ما يكون إلى أسلوب سينما المؤلف التي يلعب المخرج فيها دوراً أساسيا في كتابة النص بلغة سينمائية، فمخرج العرض استطاع أن يترجم رسالة مؤسسة بنت النيل إلى لغة مسرحية، اعتمد في إبداعها على فريق العمل وسلسلة من الورش المنظمة حول موضوع العرض، الذي يركز على البنية الفكرية والمجتمعية الداعمة للثقافة الذكورية والأبوية المترسخة والتي تدفع المرأة ثمنها منذ طفولتها، في البيت وفي المجتمع، ودعم هذه الفكرة عشرات القصص المستمدة من الحياة اليومية ومن الخبرات المباشرة لأعضاء الفريق ومزجها معاً لتوليف النص المسرحي، الذي يمس الخبرات المباشرة ليس فقط لفريق العمل وإنما أيضاً للجمهور، ويحفز كل منهم على أن يطرح، بينه وبين نفسه أسئلةـ تعينه على مكاشفة الذات والمواجهة الصريحة معها، بما يؤثر في المستويات الأعمق للوعي وللتجربة الحياتية.


                                               الجمهور جزء من العرض

آليات للتغيير

من بين الجوانب التي تستحق الاهتمام في هذا العمل التجربة الفريدة وغير المسبوقة التي نتطلع لأن تكون فاتحة نمط جديد للتفاعل ما بين مؤسسات العمل الأهلي والفنون بفروعها المختلفة. فمنظمات المجتمع المدني والأهلي آلية مهمة من آليات التغيير المجتمعي وتغيير الفكر وأساليب العمل، ويمكن أن توفر "حاضنة اجتماعية"، بتعبير الصديق العزيز جرجس شكري، للنهوض بقوى مصر الناعمة ويمكن أن تكون رافعة للمبادرات المختلفة في هذا الصدد، نظراً لما يمتلكه هذا القطاع من إمكانيات هائلة وقدرة على حشد الموارد وتنظيمها وحسن استخدامها. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما يمتد إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا القطاع في تغيير الوعي والتغيير الثقافي والقيمي ونشر المعرفة. وهذا ما حدث في تجربة مسرحية "الدور الأرضي". ويقول المخرج في حوار سريع معه أن هذا النص تمت كتابته عبر عدة مراحل من بينها ورشة عمل نظمتها مؤسسة بنت النيل لأعضاء فريق مودرن تياترو حول قضية العنف ضد المرأة، كان لها تأثير مهم في بناء معرفته هو بهذه القضية وأيضا في تغيير رؤيته، ثم الاستماع في مرحلة ثانية إلى الخبرات المباشرة للمشاركات في العرض، وعشرات الحالات التي تعرضت فيها المرأة لأشكال مختلفة من العنف الأسري والمجتمعي، مع إشارة إلى خضوعها لمستويات من المراقبة المحكمة المرئية والخفية، والتي يمكن القول بقدر كبير من الثقة، أن أحدا لم ينج في حياته من ممارسة عنيفة في مؤسسات التنشئة الاجتماعية بدءاً من الأسرة، ومرورا بالمدرسة وغيرها من مؤسسات للتنشئة، تركت أثراُ ما في نفسه وفي بناء شخصيته. 

رحاب صوت رائع

بالتأكيد، يختلف هذا التأثير من شخص لآخر باختلاف قدرته على التجاوز والجهد الذي يبذله كل فرد لبناء شخصية باستقلالية عن تلك المؤثرات. إن الانخراط في عمل مسرحي على هذا القدر من الوعي ومن استخدام تقنيات مختلفة في الفعل الاجتماعي وفي التفاعلات الاجتماعية يكشف عن إمكانيات هائلة للنشاط المسرحي، والتي جعلت من المسرح ألية مهمة من أليات العلاج الاجتماعي والمجتمعي بل والنفسي، وهو جانب يهتم به مبدعون مسرحيون من الجيل الجديد من مخرجين وكتَّاب، من بينهم جون ميلاد، عبر الإخراج والتمثيل، ومحمد عبد الفتاح (كالابالا)، في التدريب على الحكي والإخراج المسرحي والتمثيل. إن عرض "الدور الأرضي" بداية طريق نأمل ألا يكون نهايته، في هذا المشروع، من المهم الانتباه إلى أهمية الدور الذي يلعبه المسرح في التغيير المجتمعي والقيمي والثقافي، والاعتماد على هذه الآلية في المراحل المختلفة للمشروع وتقديم الحلول من خلال إعادة بناء الواقع. وأشير هنا إلى قدرات كامنة لدى المسرح المستقل تتمثل في كتابة النص المسرحي التفاعلي على النحو الذي قدمته تجربة مسرحية "الدور الأرضي"، والتوسع في هذا المجال قد يساعد أيضا في معالجة نصوص مسرحية كلاسيكية من المسرح المصري والمسرح العالمي وإعادة تقديمها للجمهور، الذي يجب إدخاله في التجربة المسرحية من خلال تقنيات للعرض على غرار التقنية التي استخدمت في العرض الذي قدم على مسرح جمعية نهضة الجزويت، والتي دمجت نصف الجمهور تقريبا إلى المسرح وجعلتهم جزءا من العرض بالنسبة الآخر. 

أيضاً هناك إمكانات هائلة للمسرح في الكشف عن ثراء مصر بمواهب كامنة في المجتمع، فقدمت المسرحية رحاب، وهي صوت غنائي رائع ومتميز، والمغني الواعد ميشو الذي قدم أغنية صباحية شهيرة، لكن المشاهد يشعر بتميز في أدائها متناسب مع العرض، واستغلال إمكانات الرقص الحديث القادرة بذاتها على تقديم عرض مسرحي يعتمد على الأداء الحركي ولغة الجسد، وتوظيفه في العرض المسرحي الذي قدم الفكرة في قالب درامي وبلغة المسرح الحديث الذي لا يعتمد على القالب التقليدي للأعمال المسرحية الذي يعتمد على نص مكتمل ومغلق والتصعيد الدرامي، ليقدم نصا مفتوحا يترك للمتفرج مساحة لاستكماله، ليفتح طريقاً جديداً للمسرح التفاعلي، وتفعيل الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها المسرح كقاطرة للنهوض بفنون الأداء المختلفة، وكألية للتغيير. 

بقيت كلمة بخصوص المسرح المستقل والفرق المسرحية المستقلة والتي يعبر انتشارها عن تجدد لنهضة مسرحية في مصر. فمن يدرس تاريخ المسرح المصري في بداياته الأولى، يجد تشابها كبيرا بين بدايات المسرح في مصر ودوره الاجتماعي والسياسي والذي شهد انطلاق كبيرة مع المسرح الغنائي على يد الشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد درويش، والذي أحدث ثورة في الموسيقى، وهيأ كوادر في المجتمع لاستقبال فن السينما. هذه الفرق في أمس الحاجة لأن نحتضنها ونرعاها ونوفر لها كل الموارد للنهضة المسرحية والفنية، ففي ذلك إعلان قوي بأن مصر ليست ثرية فقط بتراثها الفني وإنما أيضا بقدرة المجتمع على التجدد المستمر. والرسالة التي يجب تأكيدها هنا هو العلاقة الجدلية بين الفن والحرية. إن صرخة التحرر التي أطلقتها مسرحية "الدور الأرضي"، التي أعلنت التمرد على أن يظل سكان "الدور الأرضي" قرباناً لسكان الدور العلوي، وعلى الثقافة الأبوية والذكورية وحواملها الاجتماعية يجب أن تترجم إلى فعل واع وممنهج يقود الفرد والمجتمع نحو الحرية.
------------------------
بقلم: أشرف راضي