لقد كنت قد عاهدت نفسي أن أبدأ هذا العام الجديد ، بالتوقف عن متابعة ما يحمله " الإعلام" من لغو ، وسفاسف الأمور ، علي اعتبار أن الشيخوخة لها أحكامها ، ومن بينها أن تحسن اختيار ما تقرأ أو تشاهد أو تسمع ، فلم تعد الصحة تحتمل ، ولا عاد في العمر ما يمكن أن يضيع في معارك تفوح روائحها بالعفن والفتن .
إلا أن العام ما أن بدأ ، حتي توالي من يحسنون الظن بتقديراتي ، يسألون ، ثم يلحون في السؤال ، واتفادي الرد ، وازوغ إلي العموميات ، ومن ضمن الأسئلة المزعجة التي حاصرتني ، كان طلب تفسير ما كتبته أستاذة جامعية ، سبق لها تولي مناصب هامة في كل الأحقاب الماضية تقريبا ، ونشرت مقالا في إحدي أهم الصحف أشادت فيه بشعب مصر المتمسك " بمصريته "، رغم تكرار الغزاة الأجانب الذين احتلوا أرض بلادهم ، مثل التتار والفرس والأغريق والرومان و"العرب" والفرنسيين والإنجليز ..إلخ.
وقد حاولت أن التمس للكاتبة عذر السهو والخطأ ، لكن البعض أصر علي أن هويتها الدينية تجعلها متهمة بمحاولة نشر الفتنة حين تضع " العرب " ضمن غزاة مصر ، ولم يكتف هذا البعض بمداعبتي بأن " درجتها العلمية ، لم تتح لها إدراك أنه إذا استقر الغازي وساد واختلطت ثقافته بثقافة المجتمع ، فأنه يصبح مكونا رئيسيا من مكونات الهوية الوطنية التي حاولت الدكتورة أن تشيد بمن يتمسك بها ، وربما المشكلة أنها فقط في حاجة كي " تكمل تعليمها " !.. لكن الأصدقاء رفضوا الإكتفاء بالنكتة !.
وكان الموضوع الثاني الذي حاصرني من كل اتجاه ، ليس فقط بإعتباري ملما بالقراءة ، بل علي أساس كوني جنديا مخضرما نال شرف الحرب دفاعا عن شرف الأرض ، كما أضافوا أيضا ما قد أحمله من خبرة دبلوماسية ..كي أوضح سر الرغبة الجامحة في إستخراج تمثال ديلييبس من القبو المدفون فيه ، كي يستعيد موقعه الإستعماري المطل علي قناة السويس ؟.
سامح الله من اخرجوني من عزلة اتخذتها ، ولازلت أصمم علي الإلتزام بها ، ولكن يبدو أن " الشأن العام " يكون مثل " الإدمان " لبعض الناس ، يحتاج لعلاج خاص ومثابرة كي يقلع المرء عنه .
وسواء أكان موضوع " الغزو العربي " ، أو " ديليسبس " ، فمن أسف أن بعض من يتشدق به يحملون علي ظهورهم قلادات أكاديمية ، وألقاب مجتمعية ، تبهر من لا يعرف ، وقد ينساق غير مدرك ، ولمجرد التقليد.
موضوع " صنم بورسعيد " ، سبق إثارته حين رأي بعض الفرانكوفيين المصريين أن يحتفلوا بالذكري الخالدة لغزو بونابرته للمحروسة ، وشرعوا أقلامهم ، وانبروا يدورون حول صنم " ديلييبس " وهم يتباكون علي مجتمع لا يعرف مثلهم رد الجميل لأصحاب الفضل علي مصر .
ولقد كتبت مقالا حينها ، ضاع للأسف في دهاليز مكتبي ، بعد أن تعذر نشره في المواقع التي كنت انشر فيها اجتهادي المتواضع .
وربما أتذكر أنني طلبت من هؤلاء الفرانكوفيين أن يجمعوا حقائبهم ، ويولوا شطر بلاد الفرنجة كي يعتمروا فيها ويحجوا ، ويدوروا حول كل التماثيل وخاصة تمثال الإله "جان فرانسوا شامبليون" ، المنحوت من المرمر، والذى يصوره وهو يضع قدمه اليسرى فوق رأس تمثال لأحد فراعنة مصر الأمجاد في ساحة الكوليدج دي فرانس.
وقبل أن أغلق دفتي كتابي ، وأختفي في قوقعتي كي اريح وأستريح ، أقول بضمير مستريح ، أن ذلك هو " الغزو الحقيقي " الذي يسعي لإحتلال العقل الجمعي المصري ، والذي يتعين التصدي له ، وليس " الغزو العربي " الذي تحدثت عنه الدكتورة .
------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق