جاءت الزيارة الرسمية لوفد أمريكي إلى سوريا الأسبوع الماضي، برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، باربرا ليف، كصك اعتراف بشرعية جبهة تحرير الشام بقيادة "الجولاني"، أعقبها تسابق عربي من الزيارات والاستقبالات والمساعدات، لممثلي القيادة المركزية لتحرير الشام، لتسجيل الاعتراف بشرعية الجولاني استجابة لرغبات البيت الأبيض.
شرعية، ليست الأولى من نوعها، فقد سبق وأن أضفى المجتمع الدولي، الشرعية على"طالبان" الذراع الأفغاني لتنظيم القاعدة الذي قام بتفجير البرجين في نيويورك العام 2001، الفارق بين "الشرعيتين" أن جبهة النصرة التي سيطرت على مقاليد الأمور في سوريا، اعترف بها العالم، خلال زمن وجيز جدا..وهنا الكلام:.
ـ الحديث عن شرعية السلطة الجديدة، على الرغم من تصنيفها بالإرهاب، وغيره من"الكلام، يبدأ وينتهي عند الأمن الاستراتيجي في الإقليم عموما، وإسرائيل خصوصا..هذا أولا.
ـ ثانيا، يبدو "الشكل" الميداني لسوريا الجديدة، أصبح خاليا من إيران وحزب الله، وروسيا لاحقا، في حين يسعى كل من أمريكا، إسرائيل وتركيا، إلى استثمار الموقف الميداني على الأرض، والاستفادة منه إلى أقصى حد ممكن، باعتبارهم أبرز وأهم الفائزين بـ"الكعكة الشامية".
أما ثالثا، فإن الشكل السياسي لسوريا الجديدة تحدده (بدرجة ما) متطلبات الأمن الإسرائيلي، والأخير يرى سوريا دولة منزوعة الأسلحة الهجومية، لا تبسط سيادتها على كل الأراضي، إنما الحفاظ (على الأقل) بالوضع الميداني الذي كانت عليه سوريا خلال عهد الرئيس بشار، حيث توزع ترابها الوطني بين قوات الأسد وقوات الفصائل المعارضة المسلحة.. ومن هنا ترتكز الرؤية الاستراتيجية للأمن الإسرائيلي، على تغيير الخريطة السورية، بما يجعل من سوريا مجرد كيانات عرقية ومذهبية، من سنة وشيعة وأكراد بشكل أساسي، خصوصا وأن أوضاع القوات على الأرض تشير إلى سيطرة الجيش الإسرائيلي على كامل الجولان بعد احتلال المَنطقة العازلة (أيّ الجزء السوري المحرّر مِن هضبة الجولان)، ثم وسّعت اجتياحها ليشمل أجزاء إضافيّةً في محافظات ريف دمشق والقنيطرة ودرعا، بحيث باتت تتحكم بطريق دمشق بيروت مِن جهة، والطرق الداخليّة في لبنان وبخاصة طريق البقاع الجنوب.. أوضاع ميدانية تتيح لإسرائيل فرض كلمتها "الأمنية" على الصيغة السياسية التي تشكل سوريا الجديدة.. ربما كل ذلك يفسر لغز "الزمن الوجيز" الذي استغرقه الاعتراف الدولى بالجولاني.
وبعيدا عن ما سيكون عليه الشكل السياسي في دمشق، إلا أنه في التحليل الأخير، ينتهي إلى ضمان الأمن المطلق لإسرائيل من الجهات الأربع بضمانات أمريكية، وتعهد سوري.. في الشمال، سوريا ولبنان، وفي الشرق الأردن، مصر جنوبا، والبحر المتوسط غربا.. وعلى خط مواز، يبدو الطريق أمام إسرائيل مفتوحا لضم الضفة وغزة مع تولى الرئيس الأمريكي مقاليد البيت الأبيض بعد أيام معدودة، ولعل تهديده الأخير بـ"الجحيم" إذا لم يتم الإفراج عن الأسرى، يشير إلى عدم ممانعته لأي فعل إسرائيلي.
هنا ينتهي "كلام" الميدان والسلاح، بسيناريو الأمن "المطلق" لإسرائيل، في مناخ "جيوسياسي" غير مزعج، ما يتيح لها بناء المزيد من المستوطنات، باعتبارها "مفرزة" التقدم إلى حدود أخرى، والاستيلاء على أراضي جديدة.. نهاية تستوجب عودتنا إلى سوريا ذاتها والتحالف المسلح الذي يسيطر على العاصمة.. عودة تفتح المجال أمام "كلام" من نوع آخر في الشأن السوري عموما، يدور حول تساؤل محوري:
ـ هل تقبل هيئة تحرير الشام المسيطرة على دمشق وريفها، بتحويل الشام إلى "كنتونات" مذهبية وفقا للغاية الإسرائيلية من سوريا الجديدة؟
من المؤكد أن الجولاني ورفاقه لن يقبلوا، وفقا لتصريحاتهم المعلنة، إلا أن الأخيرة تبقى مجرد"كلام" أمام حقائق الوقت الذي تحتاجه تل أبيب لتنفيذ مرادها، والوقت الذي تحتاجه سوريا لتقف على قدميها في ظل أزمات كبرى تواجه الداخل وتنذر بما هو قادم.. بالمقارنة، ووفقا لتصريحات السلطة الجديدة في سوريا، فإن جبهة تحرير الشام تتولى إدارة المرحلة الإنتقالية المقدرة بثلاث سنوات على الأقل، أي أن عودة الدولة السورية، كوحدة سياسية، تدافع عن حدود أراضيها، في حاجة إلى ثلاث سنوات إضافية، متى أمكن بناء جيش وطني غير إيدلوجي.. في المقابل، لن تحتاج إسرائيل مثل كل هذا الوقت، خصوصا وأنها أنجزت أهم خطوات "العملية" بالانتشار الميداني، وأمامها من الوقت ما يتيح لها تحقيق رؤيتها "الجيوسياسية" لسوريا الجديدة، رؤية تبدأ وتنتهي عند الأمن والتمدد.. باختصار إسرائيل تسبق الجميع في الوقت، وكل ما تحتاجه من زمن لتحقيق مرادها، وجيز جدا جدا مقارنة بالوقت الذي تحتاجه سوريا، لتتهيأ عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لإفشال المشروع الصهيوني في الشام..
الجولاني وضع "الإسلام السياسي" كله، وفي القلب منه الفصيل الجهادي، قبل أن يضع نفسه، أمام الاختبار الأخير، لهم جميعا، كتيار سياسي حاضر في الحياة العربية.. إختبار الانتماء، وما إذا كان للوطن، ما يستوجب الدفاع عنه، أم الانتماء للفكرة "الإسلامية" حول دولة الخلافة، ما لا يستدعي أن يكون تراب الوطن مقدسا.. صحيح أنه (وكل العرب) لا يملكون من الأمر شيئا، إلا أن إفشال مشروع "الكنتونات" الذي يسعى إليه نتينياهو، يبقى قائما، إذا استطاع الجولاني التحرر من أفكار الخلافة، وتوج نفسه قائدا لوحدة التراب السوري، تحت ظل صيغة وطنية، تضمن الحقوق للجميع بقوة التشريعات والقوانين.. الجولاني لن يواجه إسرائيل عسكريا، مستحيل، لكنه يمكن أن يقاوم المشروع الصهيوني بدولة وطنية تضم وتحتضن كل الأعراق والمذاهب.. الأيام المقبلة قد تلقي الضوء على الموقف الحقيقي للجولاني، خصوصا إزاء ما يحدث في الشمال الشرقي للبلاد، والاشتباكات الدائرة بين القوات الموالية لتركيا، والقوات الكردية المدعومة من أمريكا.. الاتجاه نحو الشمال بحل سياسي يدرأ مخاطر التقسيم، له أولوية أولى في استراتيجية منع تل أبيب من تحقيق مشروعها هناك.. الأيام المقبلة قد تلقي الضوء على موقف الجولاني، من الأمر، فإذا اتجه نحو الشمال ونجح في لملمة شركاء الوطن، فإن نواياه، حتما، تتجه نحو الجنوب، تشير إلى إسرائيل باعتبارها العدو الأول.. وهذا هو الاختبار الأخير للجولاني والتيار الإسلامي في مدى مصداقية ما يصفونه بالمراجعات الفقهية حول دولة المواطنة والقانون وعدم التمييز العرقي والديني.. والأهم الدفاع عن تراب الوطن.
-----------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم