مع كل إشراقة شمسٍ وغروب؛ أُوْدِع سَمْعي هديل يماماتٍ برية؛ أنفقْتُ زمنا أُراوِدُها بالحَب والماء.. والحُب؛ حتى رَضيَتْ أن تسكُنَ شرفتي، في إحدى صباحاتها الرّائقة؛ فتحتُ النّافذة أُمَنّي النّفس بأن يبسط الزّمن رداءَه عليها؛ ولو بضع دقائق مُكللًا بالمُؤانسة والرّضا؛ مُبددًا غَيم الأحزان والألم، وما إن طفقتُ إطعامها؛ إلا وحانت منّي التفاتة تَصّعد إلىٰ السّماء، إذ بالأُفق الأعلىٰ مُتوردًا ببهجته الخاصة؛ جعَلتْ الرُّوح تُشرق بسرورٍ عظيمٍ.
سِرب يمامٍ هائم نشوان في نَسقٍ متفرّدٍ فائق الدّقة، يأتمرُ راضيًا بقائده؛ وبمساعديه عن اليمين وعن الشّمال حارسين، والباقون في نظامٍ بديعٍ مُنخرطين لا عِوَج فيه، أصغيتُ بقلبي امتثالًا لنصيحة الإمام "الشّافعي" رضي الله عنه: "من أصغىٰ بقلبه كان واعيًا".
أجيلُ بصري في روعة تهويمة طيرٍ مُسخَّرةً لإرادة الله، ليُرِيَنا من آياته المُعْجِزات؛ علىٰ صفحة قرآنه الكوني المرئي لمن أراد أن يستنين: "أو لم يروا إلىٰ الطّير فوقهم صافَّات ويقْبضن..".
يقتربُ السّرب فتستقبله أشعة الشّمس السّاطعة؛ فيتشارك مع سحابٍ رَؤوم؛ طاعةً وخضوعًا لقوانين خالقه: "وظللنا عليكم الغمام..".. و "أو لم يروا إلىٰ الطّير مُسخَّرات في جو السّماء..".
تتداعى عَليّ ذِكر رحمة ربي؛ حين اصطفاني وشَرَّفني بزيارة بيته العتيق، وحمامُ" الحرم" يأتينا من فَوْرِه؛ آيةُ عطفٍ كونية، يَحفنا بِظُلَلِه من لهيب الشّمس وقيظها، كما عَلمها وأوحىٰ إليها ربها: "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم".
نتسمّع شدو ترانيمها في غُدوها ورَواحِها، تُسبح للمُنعم -الضّامن قُوْتها- دونما كلل أو ملل أو فتور، فحقَّ لها أن تُأَوِّبَ مع صاحب المزامير: "وسخّرنا مع داوود الجبال يُسبحن والطَير.."، فلْتَسْمُ ولتتماهَ إذن مع النّبوة: "يا جبال أوبي معه والطّير.."، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟!
فلتتعبدْ في محراب الكون؛ ولتعقلْ دورها؛ وتشكر أنعمها: "والطّير صافَّات كلٌ قد عَلم صلاته وتسبيحه"، أو لم يكْفِها ربُها؛ تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا؛ لأنها تتوكل عليه حق توكله؛ كما أخبرنا المصطفىٰ -صلوات الله وسلامه عليه- حين قال: "لو أنكم تتوكلون علىٰ الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطّير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، قد فهِمَتْ معنى قوله تعالى: "وهو خير الرّازقين".
فحين يرزق.. يَهبُ الأحسن والأفضل والأهنأ والأطيب، فماذا تَوَد بعد كل هذا النّعيم ؟!
فقِهت الطّير، فكانت معجزة لإبراهيم وعيسىٰ-عليهما السّلام-، وطعامًا لموسىٰ-عليه السّلام- وقومه، ومُنقذًا علىٰ باب الغار لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه أبو بكر، وعقابًا "أبابيليًّا" لأبرهة وأفياله، ومُعَلِما لقابيل كي يواري سوأة أخيه التّراب، ومُسبّحة مع داوود، وجُند حقٍ؛ وإعلامًا ونبيئًا أمينًا صادقًا لسّليمان -عليه السّلام-.
طيورٌ سابحاتٌ جارياتٌ لمنافعنا فهل تأملنا وعَقِلنا ؟... لطالما تتوق النّفس لتَأَمّل حالها؛ فإذ بها نعمةٌ تسُرُّ النَّاظرين، ولحم طيب تشتهيه النّفس، وشدْو يجلي الرُّوح، ورسائل عشق للمحبين والوالهين، وبوح أسرار الشّعراء.
"عصفورة حطت على غصن.. لولاك كاد الغصن يحترق.. هي دفقة من عطر فاتنة.. هرمت له فتناثر العبق" هكذا يعترف الشّاعر الكبير "سعيد شوارب" ويحكي عن طيره.
ومن قبْله يُغبطه "نزار قباني" على تحليقه بعيدًا بعيدًا: "أحب أن أضيع مثل طيور تشرين.. بين الحين والحين.. أريد أن أضيع مثل طيور تشرين".
التّطلع لحال الطّير يُلقي على النّفس فيضًا من التّصافي، والرّقة واللطافة والبهجة، والصّفاء الرُّوحي والفكري..
"يدخل الجنّة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطّير".. هكذا صدّقنا المصطفىٰ-صلى الله عليه وسلم- هو وصفةٌ لعلاج الوَحشة والعُزلة والانفرادية، حين نتأمل بديع تكوينه؛ وجمال ألوانه، ومواقيته المتّسقة مع مواقيت الكون في اليقظة والنّوم؛ ينسجم مع إشراقته وغروبه؛ وكيف يمارس الحُب والهجرة وزيارة الأمكنة؛ ولا يدع في قلبه مثقال ذرةٍ لكرْهٍ أو عنف؛ ساعتئذ؛ يحق له أن يُهيل التّراب علىٰ أرواحنا الفقيرة إنسانيًّا؛ الملوثة بالقسوة والعنف.
كدت أفرغ من إطعام يماماتي؛ وأنا أستشعر ابتسامة الرِّضا ترتسم علىٰ ثغري؛ تخترق الآلام والأوجاع، مُعلنةً أنّ زمن الحُب والجَمال لم ينضب بعد، وأنّ الكون مُفعم بعبير الأمل؛ وشدو التّفاؤل والإشراق؛ ليراقص القلب علىٰ إيقاعاته كي ينهل من ترياقه..
يكاد يطرق مسامعي صوت النّبي سُليمان -عليه السّلام- فرحًا مُتهللًا مُستبشرًا: "يا أيها النّاس عُلمْنا مَنطق الطّير..".. كم تمنيتُ أن نُهلل معه: ونحن كذاك فَطِنَّا منطق الطّير فوهبنا الله سرّه القُدُسِي.
--------------------------
بقلم: حورية عبيدة