هجوم واسع ممن يسمون أنفسهم بالتنويريين وغيرهم على قرار عودة الكتاتيب يكشف عن حقد دفين تجاه أى خطوة تحافظ على المجتمع وتحمى الأطفال والشباب من مخاطر محدقة من كل الجهات.
ولعل ما يؤكد أهمية الكتاتيب ودورها فى استعادة اصطفاف المجتمع هو أنها تضرب فكرة الديانة الإبراهيمية المزعومة فى مقتل. تلك الفكرة التى بدأت منذ بدأ الترويج لصفقة القرن والهرولة العربية نحو التطبيع أواخر 2020، قبيل نهاية الولاية الأولى للرئيس الأمريكي ترامب، والتى من المقرر أن يتم احياؤها من جديد خلال ولايته الثانية.
هذه الديانة ببساطة هى محاولة مكشوفة للخلط بين التآخي والتسامح بين الأديان من جهة وإلغاء الفروق بين الأديان من جهة أخرى.. فالدين الإبراهيمي هو نتاج جهد مراكز بحثية ضخمة وغامضة، انتشرت مؤخرا في ربوع العالم، وأطلقت على نفسها اسم "مراكز الدبلوماسية الروحية"، ومن هنا بدأت دعوة كبار رجال الدين في الأديان السماوية الثلاث، من أجل إيجاد قيم عامة مشتركة بين الأديان، مثل: المحبة، والتسامح، المساواة، والتعايش، وتقبل الآخر. وهو حق أريد به باطل، فهى تدعو إلى التنوير والتدين، وتأخذ في إعادة تأويل النصوص الدينية، ونصوص التفسير لتمهيد الطريق لعمل مراكز "الدبلوماسية الروحية" التي تنتشر في مراكز الصراع فى العالم، وتركز فى ظاهرها على قيم الود والتسامح وخاصة فيما يختص بالقضايا الشائكة في الشرق الأوسط.
ويدعى أصحاب هذه الفكرة ومروجوها أن مزج الديانات الثلاث في دين واحد يجتمع عليه الناس، ويخلصهم من بوائق النزاعات، والصراعات التي تؤدي إلى إزهاق الأرواح وإراقة الدماء والحروب المسلحة بين الناس ، هذه الدعوة مثلها مثل دعاوى العولمة ونهاية التاريخ و"الأخلاق العالمية" وغيرها – وإن كانت تبدو في ظاهر أمرها كأنها دعوة إلى الاجتماع الإنساني وتوحيده والقضاء على أسباب نزاعاته وصراعاته إلَّا أنها هي نفسها، دعوة إلى مصادرة أغلى ما يمتلكه الإنسانِ وهو: «حرية الاعتقاد» وحرية الإيمان وحرية الاختيار، وكل ذلك مما ضمنته الأديان، وأكدت عليه في نصوص صريحة واضحة.
فهل يحتاج العالم لدين جديد أم يحتاج لتفعيل ما جاءت به الديانات الثلاثة. هل ستختفى الصراعات فى منطقة الشرق الأوسط كما يزعمون، أم ستتحول إلى كتلة من العبيد يحكمها الأسياد بسلاح الدين بالإضافة إلى سلاح العلم والتكنولوجيا!! لماذا يؤرقهم اختلاف الأديان.. هل لأنها أدت للنزاعات مثلما يزعمون أم لأنها تحث على الحفاظ على الوطن والجهاد فى سبيله..
هذه الدعوات المشبوهة ليست وليدة اليوم بل بدأ التمهيد لها منذ تدخل الغرب فى مناهج التعليم بالحذف والإضافة، وبدأ الاهتمام يتراجع بحصة التربية الدينية وإهمالها، وضرب الثقة بين المواطن وعلماء الدين والمؤسسات الدينية، حتى أصبحت عقول الأجيال الجديدة فارغة من الإيمان والتدين.. وأصبح من السهل ملؤها بأى شيء آخر حتى لو كان دينا جديدا مسيسا يتخفى ويتسلل بمكر ودهاء ويستتر بدعاوى الإخاء والانسانية من أجل استكمال مخطط السيطرة على المنطقة..
هم فشلوا فى احتلالنا عسكريا وسياسيا ويحاولون الآن احتلالنا دينيا سواء من خلال توظيف ورقة الجماعات الإرهابية فى السيطرة على بعض الدول، ثم التخلص منهم فى الوقت المناسب، أو بتمهيد البيئة المناسبة عبر دعوات الدين الابراهيمي، وهناك من يساعدهم من داخل الدول عن جهل أو عن دراية و إدراك..
أما من يهاجمون عودة الكتاتيب بحجة أنها لا تتناسب مع دخولنا عصر الذكاء الاصطناعي، فإنني لا أجد أى وجه للتعارض بين أن نكون فى عصر الذكاء الاصطناعي ، وأن يتعلم الأطفال دينهم ويحفظون القرآن.. بل إن الكتاتيب ستحارب ما يتم بثه من معلومات مغلوطة بالذكاء الاصطناعي سواء كانت آيات قرآنية أو أحاديث نبوية. صحيح هناك صورة ذهنية سلبية عن الكتاتيب فى الدراما المصرية، أبرزها ما نقله لنا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فى سيرته الذاتية من خلال مسلسل الأيام الذى صور شخصية (سيدنا) الشيخ الكفيف ذو القلب الغليظ والعصا الطويلة الذى أساء لسمعة كتاب القرية رغم مثالبه العديدة.
لكن من يرصد سلبيات الكتاتيب فى الدراما لا يتحدث عن إيجابياتها ودورها فى تنشئة أجيال واعية تحافظ على لغتها العربية وتعرف دينها حق المعرفة، وكم الأدباء والشعراء والمثقفين بل ومشاهير الأطباء والمهندسين الذين مروا على كتاب القرية أثناء دراستهم .. فهل شاهد من يهاجمون قرار عودة الكتاتيب حجم التفاوت الرهيب فى الثفاقة الدينية والمعرفية والقدرات اللغوية بين أجيال الكتاتيب وأجيال الانترنت وعصر الذكاء الاصطناعي..
الخيارات أمامنا واضحة لا لبس فيها .. وذاكرة الطفل بيضاء تتلون بما يتم وضعه فيها.. فإما أن تضع فى ذاكرة أطفالك آيات من القرآن وتعليم لصحيح الدين البعيد عن التطرف والمغالاة، وحصيلة محترمة من اللغة العربية بجانب المناهج الدراسية التى يقوم بتحصيلها فى المدرسة، أو أن تضع فيها سخافات التيك توك وأغانى المهرجانات وألعاب البلاى ستيشن السارقة للوقت ، والدارك ويب القاتلة..
وظنى أن تبنى وزارة الأوقاف لفكرة عودة الكتاتيب سيسمح لها بالمتابعة والمراقبة والتوجيه لما يتم تقديمه للأطفال فى هذه الكتاتيب، والحرص على البعد عن الغلو والتطرف، وأن أخطاء وسلبيات كُتاب القرية التى كانت منتشرة فى القرن الماضي لن يتم تكرارها.. ولن يكون فيها مكان لشخصية (سيدنا) ذى القلب الغليظ.
-----------------------
بقلم: سحر عبدالرحيم