هذا جانب من نص كلمة اليوم العربي للمسرح التي كتبها ويلقيها الفنان الفلسطيني فتحي عبد الرحمن في افتتاح الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي الذي يقام في مسقط ـ سلطنة عمان في الفترة من 9 إلى 15 يناير 2025، وتنظمه الهيئة العربية للمسرح والتي مقرها إمارة الشارقة ورئيسها الفخري الشيخ د.سلطان القاسمي حاكم الشارقة، الداعم الرئيسي للمسرح العربي الجاد المهموم بقضايا الأمة العربية على اختلافها.
انطلقت نسخته/ دورته الأولى في مصر عام 2009، لينفذ بعدها 14 دورة ما بين الجزائر والامارات والأردن والسودان والمغرب وتونس والعراق ومصر.. إلخ، وها هو يحط رحال دروته 15 في مسقط متعاونا مع وزارة الثقافة والرياضة والشباب والجمعية العُمانية للمسرح.
نص الكلمة
"المَسْرَحُ عِشْقُنا، وبهجتُنا، وخيمتنا الدَّافئةُ التي نستظلُّ بها، وفي رحابها نبوحُ بِأَفْكارِنَا، وأسرارِنَا، وكُلِّ مشاعرِنَا. إنَّهُ حياتُنَا التي نَحْلُمُ بإبداعها وعيشها، وهو حُلْمُنا التَّخيُّليُّ الدَّائِبُ بكيفيات بناءِ عالمٍ بشريٍّ أبْهَى وأَجْمَلَ، أو، على الأقلِّ، عالمٍ بَشَرِيٍّ أقلَّ وَحْشَةً، ووحشيَّةً، وعُنصريَّةً وفاشيَّةً، ومُعَاداةً للإنْسَانيَّة!
وُلِدْتُ في مُخَيَّمٍ للاجئينَ الفِلَسْطِينِيِّنَ، ودرستُ في مدارس وكالة غوثهم وتشغيلهم: الـ"أُونروا UNRWA". وفي المُخَيَّمِ كانَ لي حظُّ مُشاهدةِ أوَّلِ مسرحيَّةٍ في حياتيَ التي بلغتُ وإيَّاها السَّبعينَ عاماً ونَحْنُ نتنقَّلُ، مُتلازِمينِ، مِنْ مُخَيَّمِ لِجُوءٍ قَسْرِيٍّ إلى آخَرَ، سَواءٌ خارجَ الوطنِ الفِلَسْطينيِّ المُحتَلِّ أو داخِلهِ. وهكذا وَجَدْتُنِي، مع كل تجربةِ انتقالٍ تفرضُها الحَاجَةُ المَاسَّةُ، أَحْمِلُ كُتُبِيَ، ونُصُوصِيَ المَسْرحِيَّةُ إلى أينما ارتَحَلْتُ، وإلى حَيْثُما رُحِّلْتُ، لأبدأَ، مراراً وتكراراً مِنْ جَديدٍ، آملاً أنْ يتحقَّقَ الحُلْمَ بالعودةِ إلى فِلَسْطينِ الوطنِ، وطن الحريَّة، والكرامة، والاستقلال.
وعندما عُدْتُ إلى وطني، عُقبَ توقيع "اتفاقيات أوسلو"، وجدتني أعودُ إلى أَكْبَرِ وأَعْتى سِجْنٍ عرفهُ التاريخُ، فَتابعتُ خطوي في درب الآلام المديد، كما تابعتهُ في مخيماتِ اللُّجُوءِ القَسْريِّ وبلادِ الشَّتاتِ.
والحقُّ أَنَّني لم أجِدْ مُخَلِّصاً صَادِقاً غيرَ المسرحِ لِينْقِذَنِي من غُربتي، ووحْدَتي وقَهري، دأبْتُ على حَمْلِ خشبةِ مَسْرحِي المُتَنَقِّل على ظَهري، ورحْتُ أتنقلُ، وإياهُ، مِنْ موقِعٍ إلى آخَرَ من بينِ مئاتِ المَواقع في البلداتِ، والقرى، والمخيمات، فَوَجدْتُني أُمْعِنُ في التَّفاعُل مع من يُعَانُونَ بُؤسَ العيش ومرارةَ القهْرِ، وهَوانَ التَّمييز العنصريِّ، وغشامةَ استبدادِ جيشِ الاحتلالِ الصهيونيِّ، وضراوةِ تَوحُّشِه.
وهكذا أدركتُ، عبر صيرورة هذه التَّجْرِبَة المفتوحةِ، حَجْمَ الظُّلم الذي تعرضَ لَهُ زملائي وزميلاتي، المنتمون والمنتميات إلى المسرحِ بأوسَعِ معانيه وأعمقهَا، في المَعَازلِ الإجباريَّة القهريَّة التي فُرِضَتْ عليهم؛ إذْ عَايَشْتُهُم وهُمْ يُقَاتِلُونَ، بِصُدورِهُمُ العَاريةُ، من أجلِ أنْ يكونَ لهم مَسْرحٌ يُجَسِّدُ سرديَّتَهم الفلسطينيَّةَ الإنْسانيَّةَ الحضاريَّةَ التَّاريخيَّة المُؤصَّلة، ورؤاهم المستقبليَّةَ المفتوحَةَ على مستقبلٍ فلسطينيِّ إنسانيٍّ مفتوح، وهو مَا يُوجِبُ امتلاكهم، وممارستهم، في الحدِّ الأدني، حُقَوقَ: الحَياةِ، وحريَّةِ التَّنَقُّل، والتَّعبير، والوصولِ إلى المَعرفةِ، وفي صُلبها المعرفةِ المسرحيَّة، ناهيكَ عن حُقُوقِ التَّعَلُّم، وتبادلِ الخبراتِ، والوصولِ السَّلِسِ إلى المؤتمراتِ والمهرجاناتِ والنَّدواتِ وورشاتِ العملِ دُونَ عوائقَ مُفتَعَلةٍ يُرادُ لها أنْ تحولَ دونَ المُشَاركة الحيويَّة فيها.
وإلى ذلك، لم يَكُنْ لِسُؤاِلنَا الحَيَاتِيِّ الوُجُودِيِّ الدَّائِمِ، كَمَسْرَحِيِّنَ فِلَسْطِينِيَّن داخلَ الوطنِ المُحْتَلِّ وفي مُخيَّمَاتِ اللُّجُوء القسريِّ وبلاد الشَّتات، أنْ يختلفَ، بأيِّ قدرٍ، عَنْ سُؤالِ شَعْبِنَا الحَيَاتِيِّ الوُجُودِيِّ الدَّائِمِ، الَّذي هُوَ: مَتَى يُرفَعُ الظُّلمُ الاستعماريُّ الاحتلاليُّ الثَّقيلُ عَنْ صَدرِ أرضِنَا، وعَنْ صُدُورِنَا، وعَنْ صُدُورِ أجيالِنا المتلاحقةِ منذُ ما يَربُو على ستةٍ وسبعينَ عاماً خَلَتْ؛ متى ينتهي هذا الكابوسُ الإمبرياليُّ الاستعماريُّ الصهيونيُّ الأسودُ القابضُ، بتوحُّشٍ منقَطِعِ النَّظيرِ، على رُوْحِ فِلَسْطِيْنَ، وشَعْبِهَا، والإنْسَانيَّةِ بأْسْرِهَا؟
وما من دليلٍ ماديٍّ، شَامِلٍ على التَّوحُّشِ البَشَريِّ الاستعماريِّ الصُّهيونيِّ الأمريكيِّ في الهمجيَّة، بأسْطَعَ، وأشَدَّ إبهاراً وإقناعاً، مِمَّا تبثُهُ بعضُ قنواتِ وكالاتِ الأنباءِ، وشاشاتِ التَّلفزة العَالمِيَّة، ومَا تلتقطهُ كاميراتُ الصَّحافيين، ومُوبايلاتُ شُهُودِ العِيَانِ مَنْ فُصُولِ، وحلقاتِ، وتجلياتِ، جرائمِ التَّدميرِ الحَضَاريِّ الكُلَّيِّ، والإبادةِ الجماعيَّة، الَّتي يقترفُهَا الكيانُ الاستعماريَ الوظيفيُّ المُدَجَجُ بالسِّلاحِ الأمريكيِّ والمُسَمَّى "دولةُ إسرائيل"، منذُ ما يربو على عَامٍ ونحو شهرين، ضدَّ شَعْبيِّ فِلَسْطينَ ولبنانَ، المستهدفين بالإبادة الجماعية والتهجير القسريِّ مع استهداف أرض وطنيهما، بالسَّلْبِ والسرقة والمُصادرة والاحتلالِ، وادِّعاءِ الملكيَّة استناداً إلى وعْدِ "ربِّ الجُنُودِ" التَّوراتيِّ التَّلموديِّ.
فهلْ لكائنٍ بشريٍّ صَيَّرَ نَفْسهُ، بصبرٍ وأناةٍ وجهدٍ مثابرٍ، إنْساناً حَقِيقيَّاً أنْ يغضَّ الطَّرفَ عَمَّا قد أبصرتْهُ، ولم تزلْ تبصرهُ عيناهُ، على مدى الدقائق والثواني التي شكلت عاماً كاملاً ونحو شهرين، عبرَ البَثِّ الحيِّ، من مذابح ومجازر ترتكبُ، بلا أيِّ وازعٍ، بحق المدنيينَ الفلسطينيينَ واللُّبنانيينَ.
وهل لي أنْ أُشيرَ إلى عشراتِ الآلافِ من الأبرياء الذينَ أُزهَقَتْ هذه الـ"إسرائيلَ" أرواحهم، وإلى الآلافِ الذينَ طُمرتْ أجْسَادُهُم، حيَّةً أو جثامينَ، تحتَ أنقاضِ بيوتهم التي تمَّ تدميرها فوقَ رؤوسهم؟! وهل أُذكركم بالمدنيين الفلسطينيينَ مِنَ النِّساءِ والأطفالِ والعَجَائزِ والشُّيُوخِ الذينَ أُحْرِقُوا أحْيَاءً في بيوتهم، وفي مآوي لُجُوئِهِمْ، وفي خِيَام نُزُوحِهِمْ، والَّذينَ قُتِلُوا، بِبُطءٍ وتلذُّذٍ سَاديٍّ، بأيدي جُنُودِ "ربِّ الجُنودِ" الصَّهاينةِ الذينَ أمعنوا، إنْفَاذاً لأمرهِ الشَّيطَانيِّ، مع منطلقاتِ آيديولوجيتهم العنصريَّة، ونوازعهم الشِّريرةِ، ورغباتهم الغريزيَّةِ المقيتَة، في إِظْمَائِهِمْ، وتَجْويعِهِمْ، وتعريضهم لأعْتَى الأمراضِ، بحرمانِهم، حرماناً كُلِّيَّاً، مِنَ المَاءِ، والطَّعامِ، والدَّواء؟!
وهَلْ لي أنْ أُسْهِبَ فَأُذَكِّركُمْ بما أُدْرِكُ أنَّكُمْ لَنْ تَنْسُوهُ أبداً، من تَدْمِيرٍ حَضَاريٍّ طالَ مِئَاتِ آلافِ المَسَاكِنِ والبُيوتِ، وآلافَ مَبَانِي دُور العبادةِ الإسلاميَّة والمسيحيَّة، ومئاتِ المُستشفياتِ، والمدارسِ وعشراتِ الجامعاتِ والمؤسَّسَاتِ التَّعليميَّةِ والتَّربويَّة، والمراكز الثَّقافيَّة، والنّوادي والملاعبِ والمراكز الرياضيَّة، حيثُ جرى تدميرُ كُلِّ هذه المَبَانِي فوقَ رُؤوسِ قَاطنِيهَا، والعَامِلِينَ فيها، والآوِيْنَ إليها.
ولَستُ أحسبني في حاجَةٍ للإفصاحِ لكمْ، إلى حقيقة أنَّ تعرفونَ الآنَ، وتُسَمُّون بلا ترددٍ، كُلَّ مَنْ سَلَّحَ، ومَوَّلَ، وأيَّدَ، وبَاركَ، ما اقترفته "إسرائيل" من جرائم حربٍ وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة والإبادة الجماعيَّة.
ولا أحسبُ إلَّا أنْكُمْ قادرونَ على، وذاهبونَ إلى، تسميَةِ كُل من صَمَتَ على اقترافِ هذه الجرائمِ من دولٍ وكياناتٍ سياسيةٍ وظيفيَّةٍ، فيما أنتم تُسَمُّونَ، مباشرةً وبلا ترددٍ، الكيانَ السِّياسيَّ الامبراطوريَّ الإجراميَّ التَّوحشيَّ الذي وفَّرَ السِّلاحَ، والمَالَ، والَّتغطيةَ الإعلاميّةَ، والحَصَانةَ السِّياسيةَ، والدُّبلوماسيَّةَ، والقانونيَّةِ لـ"دولةِ إسرائيل" صانعةِ كُلِّ هذا الخرابِ والموتِ، ومُقْتَرِفَةِ هذهِ الجرائمِ التَّوحُّشِيَّةِ غَيْر ِالمَسْبُوقَةِ في تاريخ البَشَرِ!
وإني لأحسبُ أنَّني أُصغي الآنَ لمَا تُصْغونَ إليهِ بِصُحْبةِ الإنسانيينَ الأحرارِ من قاطِني العَالم، مُعْتنِقي قِيَمِ العَدالةِ والمُسَاواةِ والمَحَبَّةِ والسَّلامِ، من أسئلةٍ تُحاكي ما يمُورُ في وجداننا الجمعيِّ من هُمُومٍ وأفكارٍ وانشغالاتٍ وأشواقٍ، ومَنْ تحدياتٍ وتوقعاتٍ وأشكالِ استجاباتٍ يتوجَبُ تفحُّصِهَا، بِعُمْقٍ وصفاءٍ، لكونها تدلُّنا على مَاهيَّةِ، وهُوِيَّة، العَالمِ الآيلِ إلى الانبثاقِ في قَادِمِ الأيَّام؛
▪ هَلْ عَادَتْ قضيةُ فِلَسْطِينَ لتَحْتَلَّ موقِعَهَا في صَدارةِ القَضَايا التي تَهُمُّ العَالَمَ، والتي يؤيدها ما يربو على خمسةٍ وتسعينَ في المائةِ مِنْ قاطِنيْهِ، أم أَنَّهَا في بُرهَةِ الذَّبْح الأخيرِ المُفْضي إتْمَامُهُ إلى تصفيتها، وإنْهاءِ وجودها، لصَالحِ هيمنةِ التَّوحُّشِ الصُّهيونِيِّ الأمريكيِّ هيمنةً مُطلقةً على مَقادِيرِ العَالَمِ، وثرواتهِ، ومُقَدَّراتِهِ، ومَصَائِرِ شُعُوبِهْ؟
▪ هَلْ أدركتِ الأجيالُ الجديدةُ زِيْفَ التاريخِ، ومراوغتهِ، وخداعه؟ وهَلْ عرفَتْ، بوضوحٍ ساطِعٍ، حقيقة القوى الَّتي تَحْكُمُ العالمَ، والوسائلَ والأساليب الَّتي تستخدمها لإحكامِ قبضتها عليه؟
▪ أَما زالتِ المُنَظَّماتُ والهيئاتُ الدَّوليةُ قادرةً على تولِّي مسؤلياتها، والاستمرارِ في أداءِ وظائفها، والنُّهوضِ بواجباتِهَا الأساسيَّة، بَعْدَ أنْ ثَبَتَ فَشَلُهَا، واتَّضحَ عَجْزُهَا عَنِ الوفاءِ بما أُنشئتْ لأجلِ الوفاءِ به؟
▪ هل يُمكِنُ للعالم أنْ يستمرَّ في قُبُولِ استمرار الاحتلالِ الإسرائيلي لأرضِ فلسطين، واستمرار عيشِ الفلسطينيين تحتَ وطأة هذا الاحتلالِ العنصريِّ الفَاشيِّ، كأسْرى مُقيَّدين، وكمنفيينَ مُحاصَرينَ، في أرضٍ من أرضِ وطنهم المَسْروق؟
▪ كَمْ من الوقتِ، والأجيالِ، سيحتاجُ الفلسطينيونَ للتَّشافِي من الخَوفِ، والكراهية، والحقدِ، والرَّغبة العارمَةِ في الانتقام والثَّأر، ومِنَ اليأسِ والقنوطِ وفقدان الأمل، والصَّدمَاتِ والأمراضِ النَّفسيَّة؟ وما هي الشُّروطُ والمتطلبات الواجبِ توافرها لتمكينهم، في واقعهم القائمِ وعبر أجيالهم المتلاحقةِ، من التعافي عبر التَّخلُّصِِ النِّهائي من الاحتلال الصهيوني الذي هُو أِسُّ كل هذا البلاء؟
▪ هَلْ يُمْكِنُ "إصلاحُ العَالم"، في ظلِّ اتِّضاح حقيقة أنَّ المُهيمِنينَ عليه، والمُتَحكمين في شؤونه، والمُسْتَبِدِّينَ بشعوبه، والقابضينِ على أزمَّةِ مستقبلهِ، هُمْ رأسماليونَ جَشِعُون مُتَوحِّشونَ، وساسةٌ فاسدون، ومجانينَ، ولصوصٌ، ومجرمونَ وَحْشِيُّونَ، وهمجيُّونَ عُنْصُريُّون؟
ولا أحسبُ أنَّ في مقدورنا، كَفنانينَ مسرحيين ومبدعينَ، أن نتراجعَ عن غايَتِنِا المُسْتَدَامةِ المتمثلة في الاستمرار في المساهمة في "إصلاح العالم"، و"إصلاح أنفُسِنَا"؛ وما ذلك إلَّا لأنَّنا لا نملِكُ القُدْرة على خِيانَةِ إنسانيتنا التي أدركنا جوهرها عبر نضالٍ وجدانيٍّ شاقٍّ ونبيلٍ. إنَّنَا لَنَرْفُضُ بملءِ إرادتنا، وكاملِ استعدادنا للتَّضْحيَةِ والبذل، الاستسلامَ للظُّلُمِ والإذعانَ للظَّالمين؛ ذلكَ أَنَّنَا نعتنقُ حُرِّيَّةَ الإنسانِ، ونُؤمنُ، إيماناً قاطعاً، بِكَرامَتِهِ الإنْسانيَّة، ونُسْهِمُ عبر إبداعاتنا، وقدْر وسعنا وجهدنا، في تمكينِ الكائناتِ البشريَّة من التقاطِ بذورِ إنسانيَّتها الكامنةِ في أعماقها، ومنَ الاستمرارِ في تعهُدها بالرِّعايةِ والإنضاجِ حتى تُونِعَ، وتبرعمَ، وتَسْمَقَ وتُثْمِرَ، إلَّا أنْ يرفضَ الظُّلُمَ، والاستعمارَ، والاستبداد، وإلا أنْ يقفَ بصلابةٍ في وجهِ وجوه وتجليات التَّوحُّش البشري وفي صُلبها الجشَعُ والاستغلال الرَّأسماليِّ، والتَّمييزِ العنصريِّ، والحروب الاستعماريَّة، وذلك ليكون بمقدوره الاستمرار في سعيه اللَّاهبِ لتوحيد الإنسانيَّةِ، وتعزيز لُحمَةِ وتَضَافُرِ جميع قواها في مواجهة التَّوَحُّشِ البشريِّ الصُّهيوأمريكيِّ، وفي الدِّفاعِ الحازمِ عن القيم والمبادئ، والحقوق، والحريات الأساسية، الإنسانيَّة، وفي مقدمتهاالحرية، والكرامة، والحقيقة، والعدالة، والمساواة، وحقِّ كل شعب من الشُّعوب في الحياةِ، والوجودِ، وتقرير مصيره بنفسه في رِحَابِ وطنه، وفوق أرضه الحُرَّة السيدة.
وفي هذا الضَّوء، لن يكونَ لأيِّ لإنسانٍ حقيقيٍّ من خيارٍ يُفصحُ من خلاله عن إِنسانيَّته إلَّا خيار الاصطفاف الحاسم مع فِلَسْطين: أرضاً، وشعباً، وحضارةً، وتاريخاً، وكونها تسعى لتحرير وطنها من احتلال صُهيونيٍّ طالَ أمدهُ، وحانَ وقْتُ دَحْرهِ، والخلاصُ منه.
إنّ قضيةَ فِلَسْطينَ لَقضيةٌ سياسيَّةٌ وطنيَّةٌ، وإنسانيَّةٌ كونيةٌ، بامتياز، فهي قضِيَّةٌ وثيقةُ الصِّلة بمناهضةِ شُعُوبِ العَالمِ للحربِ، والنَّهبِ، والتَّدميرِ، الهتكِ والفَتْكِ والابادة. ولكنَّ سِرَّ بقاءِ القضية الفلسطينية الذي عجزت الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي الأوروأمريكي عن إدراكه، إنَّما يتَجَسَّدُ في العُرى الوُثْقى التي تربطُ الشَّعبَ الفلسطينيَّ بأرضِ وطنه، وتاريخه، وحضارته، وفي إيمانه بقضيته، وحقوقه الوطنية والإنسانيَّة، وفي استعداده المستمر مقاومة الاحتلالِ مقاومةً شعبيةً شاملةً، حتَّى يتَمَكَّنَ من تحرير وطنه من الاحتلال الصُّهيونيِّ، وتجسيدِ قيامِ دولتهِ الفلسطينيَّةِ المدنيَّةِّ الدِّيمقراطيَّة المُسْتَقِلَّة ذاتِ السِّيَادة فوقَ كاملِ تُرابه الوطن.