05 - 05 - 2025

الجنرال يبيت في التخشيبة !

الجنرال يبيت في التخشيبة !

أثار فرار الأسد الصغير إلي موسكو تأملات عديدة ، فتذكرت بعض قصص الطغاة الذين عاصرتهم .. وأعدت قراءة بعض ما كتبه جارسيا ماركيز ، وكذلك بعض كتاباتي ..

في الرابع من سبتمبر 1970 نجح الاشتراكي سلفادور الليندي في الوصول الى رئاسة تشيلي عن طريق صناديق الاقتراع، حيث حصل على حوالي ٣٦ في المئة من الأصوات، وفي تلك الأثناء أرسل السفير الاميركي في سانتياغو أدوارد كوري تقريراً تضمن أن تشيلي صوّتت بهدوء لتحصل على دولة ماركسية / لينينية، وأنها بذلك تكون أول دولة في العالم تنفذ هذا الاختيار بشكل حر.

ولم يرَ هذا السفير آنذاك أن القوات المسلحة التي اغتالت الديموقراطية في تشيلي فيما بعد ستتدخل، بما يهدد بحرب أهلية أو أن هناك معجزة ستقاوم هذا الانتصار.

كتب ذلك السفير: "إنه من المحزن أن تشيلي أخذت طريق الشيوعية ولكن هذه هي الحقيقة الثابتة، وأن ذلك سيترك تأثيراً عميقاً في اميركا اللاتينية وما وراءها، لقد تلقينا هزيمة ساحقة ستترتب عليها نتائج محلية ودولية"...

كانت مناحة اميركية طويلة في شكل تقرير ديبلوماسي.

وفي كتابه "سنوات البيت الأبيض" علّق كيسنجر على ذلك بأن ما حدث في تشيلي كان مواكباً لرفض القاهرة وموسكو للاحتجاج الاميركي في شأن انتهاكات وقف إطلاق النار، يعني بذلك استمرار مصر في بناء قواعد صواريخ سام المضادة للطائرات، وتخوف الأردن من تحرك محتمل للقوات العراقية ضد الملك حسين في ظل أزمته مع المقاومة الفلسطينية، وتحرك الأسطول السوفياتي تجاه كوبا، وفي التوقيت نفسه كان رجال المقاومة الفلسطينية يمرون في الأردن بما أطلق عليه "أيلول الأسود".

يقول كيسنجر باختصار: "إن انتخاب الليندي كان تحدياً لمصالحنا القومية، وكان صعباً علينا أن نقبل بوجود الدولة الشيوعية الثانية في منطقتنا بعد ان كانت الأولى هي كوبا".

بحثت لجنة "تشرش" في عام 1975 عن دور الاستخبارات المركزية الاميركية في تشيلي، ويقول كيسنجر: إن اميركا كانت تدفع الملايين لخصوم الليندي في الانتخابات، إذ دفعت حوالي 3 ملايين دولار لخصومه في انتخابات 1964 التي خسرها، وآلاف غيرها في انتخابات البرلمان التشيلي للغرض نفسه، وبلغت المساعدات الرسمية التي قدمتها اميركا لهذا البلد ما يزيد على بليون دولار لدعم القوى المضادة .

سقط سلفادور في 11  سبتمبر 1973، بعد تولي منصبه بثلاثة أعوام.

ففي صباح ذلك اليوم قامت القوات الجوية التشيلية بقصف قصر الرئاسة، واقتحمت قوات الجيش بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه القصر نفسه عند الظهيرة، حيث تم اغتيال الرئيس المنتخب، ويقول كيسنجر إن الليندي انتحر برشاش كان كاسترو أهداه اياه!،  ولكنه ليس متأكداً من ذلك.

وحكم بينوشيه بعنف تمثّل في قتل جماعي واختطاف وتعذيب عانى منه ايضاً  بعض الاميركيين الذين رفعوا دعاوي ضد نظامه في أمريكا نفسها .

وأمام اللجنة التي شكّلها الكونغرس برئاسة السيناتور إدوارد كيندي، تقدم صحافيان أميركيان بشهادة عما حدث في فواجع الإستاد الرياضي في سانتياجو مما جعل السيناتور كيندي يأسف لسياسة الصمت التي اتبعتها إدارة نيكسون حيال تلك الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان في تشيلي.

حكم الجنرال بينوشيه تشيلي بالحديد والنار لمدة 17 عاماً، إلى أن سلم الحكم طوعاً عام 1990 إلى حكومة مدنية ، دون أن ينسي أن يحصن نفسه كنائب في البرلمان التشيلي مدى الحياة كي يتمتع بالحصانة التي تحميه من أي مطالبة قانونية تتقدم بها أسر ضحاياه.

ولمدة ثمانية أعوام بعد تخليه عن السلطة عاش الرجل في أمان وسلام. بل كان يتردد على لندن للعلاج بشكل منتظم، حتى فوجئ بصدور أمر بالقبض عليه عندما كان يتلقى علاجه في إحدى مستشفيات لندن، وذلك بناء على طلب السلطات الإسبانية لتسليمه لمحاكمته على جرائمه التي ارتكبها أثناء فترة حكمه ضد مواطنين أسبان.

في البداية أصدرت المحكمة الإنجليزية حكمها بأن الجنرال العجوز يتمتع بالحصانة القضائية لكونه رئيس جمهورية سابق، إلا أن اللجنة القضائية لمجلس اللوردات نقضت هذا الحكم وقررت أنه يمكن تسليمه إلى إسبانيا. وبدأت دول أخرى تعد طلبات لتسليمه، مثل فرنسا وبلجيكا وألمانيا والسويد وايطاليا ولوكسمبورج ..

انقلبت كل الدنيا عليه فجأة. وأصبح يتلفت حوله متحسبا لإحتجازه في التخشيبة مع القتلة واللصوص والعاهرات .

إن المرء ليرثي لحال هؤلاء السياسيين، ويأمل أن يراعي المجتمع الغربي المتحضر قاعدة "ارحموا عزيز قوم ذل".

فلقد كان على أي حال رئيساً للجمهورية، له الصولة والجولة والمهابة والاحترام، بل إنه  كان رجلكم الخاص..

لقد انتقد كيسنجر الحكيم موقف حكومته في تخليها عن رجلها الأمين الذي انتهى إلى هذا الوضع المذل المهين.

كذلك شاهد العالم ديكتاتور بنما السابق نورييجا، وضباط مكافحة المخدرات الاميركيين يسحبونه وهو في قيده الحديد، إلى السجن، ذلك الرجل الجبار الذي كان يهز الدنيا بخطاباته وهو يدق بقضبته ويصرخ بأعلى صوت، هل ينتهي به الأمر إلى أن يسجن في سجون البلد التي رعته وروته ونفخت فيه من أموالها السرية حتى أصبح ما كان.

ثم ما هذا الذي حدث للزعيم ماركوس وزوجته البديعة التي جمعت أحذية تكفي لكل حفاة العالم؟! ..

ثم كانت مأساة شاه إيران بعد طرده من إيران،  لم يجد فراشا في أي مستشفي في العالم كي يرقد عليه .. طردته أمريكا التي كم خدمها ، ورفضته بنما .. ولم يبق أمامه مع حرمه الشاهبانو سوي الإستجابة للسادات الطيب الذي أبت أخلاق القرية لديه أن يترك الشاه للسلخ بعد الذبح !..

التاريخ يعيد كتابة نفسه مرات ومرات .. ولكن الطغاة لا يتعلمون !!
-----------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق


مقالات اخرى للكاتب

محاكمة قناة السويس في بريطانيا!