ربما ينبغي ألا نرهق عقولنا في هذه المرحلة من التيه بحثا عما نريد ، اكتفاء بمحاولة تحديد ما الذي لا نريد .. بدلا من طرح الخيارات المختلف عليها حول تصورات المستقبل المختلفة ، قد يجدر بنا جمع ما يمكن أن نتوافق عليه كمجتمع .
وبدون الدخول في تفاصيل لن تغني شيئا ، من الواضح أن أغلب قوي المجتمع ( إن لم يكن كلها ) ترفض الإستبداد والظلم والقبح والكذب والنفاق ، ولا بد أنها أيضا يمكن أن تتوافق حول عناصر إنتقالية ذات طبيعة مؤقتة ريثما يثمر حوار جدي عن الإقتراب من تخوم ما نريد ، أو ما يمكن أن نريد .
القفز أو توهم القفز فوق معطيات الواقع والزمن ليس إلا نوعا من الوهم ، ولا يزيد عن قفز في المكان نفسه ، فهو وهم يرفض رؤية حقيقة أن الإنتقال بمجتمع من مكان إلي آخر ومن مكانة إلي أخري ( إيجابا أو سلبا ) يشتمل بالحتم والضرورة علي فكرة التدرج والمرحلية وبشكل حسابي دقيق ..
أو بمعني آخر ، لا يوجد شئ اسمه ( إحراق المراحل ) ، لأن كل مرحلة هي في التحليل الأخير مسافة وزمن وجهد ، يستحيل علي تجربة بشرية أن تخترق هذه الحواجز دون خسائر فادحة ..
لقد حاول محمد علي باشا ذلك ظنا منه أن جيشا كبيرا جيد التسليح يكفي لبناء إمبراطوريته ، متغافلا عن حقائق المجتمع المصري في عصره وأبعاد الوضع الدولي ، وكلاهما كان يتطلب بناء تدريجي قد يستغرق عشرات السنين .. ولقد وقع الخديو إسماعيل في نفس الخطأ ولكن من زاوية أخري ، حيث تصور أن العمارة المرصعة بمظاهر وقشور العصر تكفي كي يقف كتفا بكتف مع أباطرة وملوك أوروبا ، فكأن الأول كان يريد الإقتحام بالسيف في ميادين القتال ، والثاني بالجيتار في ساحة الأوبرا ! .
وبنفس المقياس " إحراق المراحل" ، وقع عبد الناصر في الخطأ وإن كان أكثر إدراكا ووعيا ، فقد كان الرجل يمتلك ملكات شخصية ، ومكتسبة كضابط أركان حرب تتيح له إدراك " المعضلة " التي حاول تفادي آثارها السلبية ، إلا أن حماسه وثوريته ، وطبيعة النظام الديكتاتوري كان يدفع بإتجاه عدم الإلتفات إلي مخاطر عدم التدرج ، وأهمية التمهيد الصبور لبناء الإنسان المصري أولا .. وهكذا قيل " أنها كانت إشتراكية بلا إشتراكيين " ، و " عدالة توزيع الفقر " ، و " دولة المخابرات " ..إلخ ، والتي أدت في النهاية إلي النتيجة المنطقية التي تمثلت في هزيمة 1967 العسكرية.
قد يصعب فهم ما تقدم أو التسليم به علي إعتبار أن العصر الحالي يمتلك أدوات أتاحتها التكنولوجيا تسمح بالفعل " حرق المراحل " والقفز عبر الزمن بأشكال لا تتحدي العلم أو تخترق طبيعة الأشياء ، وأن التحدي الماثل هو " اللحاق بالعصر " ولن يتسني مواجهة هذا التحدي بنفس أدوات وأفكار عصور مضت ..
ولكن .. هل يمكن لأي مجتمع أن يتقدم خطوة للأمام دون أن يتسلح بالعلم ؟ ، العلم الحقيقي الذي ينير العقول ويزيح الظلام عن الإدراك والوعي ..هل يستطيع اقتصاد مريض ، يفتقد إلي فلسفة حاكمة قابلة للتطبيق أن يتحمل أسلوب " الصدمات الكهربائية " من أجل " حرق المراحل " ؟.. بل هل يمكن أن يتحرك المجتمع دون أن يتوفر له مناخ الإستقرار والأمن والحرية بشكل يسمح بالمبادرة والإبتكار وممارسة النقد الذاتي البناء والضروري ، كعناصر لا غني عنها للإنتقال من وضع الجمود إلي وضع الحركة ؟.
وعلي هذا المنوال يمكن أن نطرح أسئلة كثيرة، تعيدنا إلي مقدمة هذا المقال :" لماذا نصر علي البحث عما نريد في هذه المرحلة ، ألا يكفي بذل الجهد في التعرف علي ما لا نريد .." ، فمن المؤكد أن لا أحد يريد الجهل أو المرض أو الظلم أو القبح ..إلخ ، فلتكن خطة التوافق حول ما لا نريد تمهيدا ضروريا للوصول تدريجيا إلي ما نريد .
----------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق