كنت فى الجزء الأول من هذه المقالة قد بسطت كلامًا فيه تحذير ونصح لدعاة الثورة فى مصر والمُنصِتين لهم المرتقبين نُذُرها ليلحقوا بها، وللإنصاف لا يجوز أن يُتوجه بالقول إلى دعاة الثورات دون الدولة المصرية، فإن عليها عملًا يلزمها لردِّ هذه الدعوات وكفّ دعاتها، وأول ما تُكفُّ به هذه الدعوات ودعاتها أن نقر بأن كثيرًا من المطاعن والمثالب المأخوذة على الدولة هى حق، وواجب النظر فيها، وواجب تغييرها، وليس يجادل فى ذلك إلا كفيف البصيرة ضرير القلب.
فمن أجل ذلك نقول إلى الحكومة المصرية: ارفعوا العذر عن عامة الشعب فى اتباع دعاة الثورات، وسدوا الخلل فى الاقتصاد، وكونوا للناس الدولة الراعية القيِّمة، لا الدولة التاجرة المتربحة من مواطنيها، فهم ليسوا عملاء فى متجر بل مواطنون فى وطن، فإن أكبر نقمة الناس على الدولة إنما هو الغلاء المتوالى للدواء والأقوات والضرورات، وهذه مادة ملتهبة لإشعال الثورات، فأسلموا أمر الاقتصاد لمن هو "حفيظ عليم" عسى الله أن ينجينا.
كذلك شأن آخر هو مادة قوية لإشعال الثورات ألا وهو طول حبس الناس الشباب منهم والشيوخ المسنين والتغافل عن أن لهم أبناء وأقرباء وأهل يأسون ويألمون إذ يجدون أباهم الشيخ المسن حبيس القيد والسجن، ويرثون لذهاب عمر أخيهم الشاب فى محبسه، فهؤلاء مُحرَّضون بما يرونه من حال إخوانهم المحبوسين، ولا ينتظرون داعى ثورة ليحرضهم، فهلَّا أطفأت الدولة الرشيدة هذه النيران المتوارية فى الصدور؟! فإن كثيرًا من هؤلاء لم يحمل سلاحًا ولا أوغل فى دم، ومن اليسير أن تفاوضهم الدولة وتبرم وإياهم المراجعات والمصالحات التى تغنى الدولة عن حبسهم وتنزع من النفوس ضغائنها التى تنبت الثورات، وتردهم إلى أهليهم، وسيكون من الخير الاستماع إلى "لجنة الحوار الوطنى" والأخذ بتوصياتها حفاظًا على السلم الأهلى المصرى، وسيكون من الخير كذلك تأمين الخائفين فى المنافى وجمع شملهم بأهلهم فيكفوا عن دعوات التثوير والتشغيب، فإنه مما يحسن بالدولة المصرية وريثة الحضارة أن تترفع عن كثير من هَنَات الخصوم وسقطات المخالفين، فإن ذلك مما يرفع قدرها، ويثبط عنها كيد الكائدين.
وآخر ما أوصى به الدولة المصرية أن تُبطل تراخيص الجماعات المسلحة المسماة شركات أمنية أو اتحاد قبائل أو صحوات أو أى اسم كان، وألا تضع الدولة السلاح إلا فى يد الشرطة والجيش، فإن تلك الفرق الأمنية والجماعات المسلحة وإن كانوا عضدًا للدولة فى وقت ما، غير أنهم لم يتعاظم أمرهم وتقوَ شوكتهم فى بلد إلا واثبوا أهله وانقلبوا على السلطة ونازعوها الدولة، رأينا ذلك فى السودان وروسيا وغيرها، فالسعيد من وُعِظ بغيره.
---------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]