بعد مرور وقت طويل يمتد ربما إلى أكثر من ثلاثة عقود، يبدأ المسرح القومي في العودة إلى أداء دوره الحقيقي كمنارة مسرحية قومية تقدم أعمالاً تُشَرِّح فيها المجتمع المصري بمبضع دقيق لا يجرح ولكنه يفتح موضع العطب في الجسد بدقة ورقة في ذات الآن، فبعد أن استطاعت المسرحية الموسيقية "تشارلي" تحقيق نجاح كبير خلال الأعوام القليلة السابقة، قرر المسرح القومي تحت قيادة الدكتور أيمن الشيوي خوض مغامرة شبيهة وتقديم مسرحية موسيقية أخرى، هذه المرة من إنتاج البيت الفني للمسرح، وإخراج المخرج الكبير عصام السيد الذي استطاع بميزانية يسيرة إخراج مسرحية موسيقية متميزة، جدد بها عصام السيد دماءه المسرحية ونحت عملاً يستطيع البقاء وحَفر اسمه بقوة في تاريخ المسرح المصري خلال العقود القادمة.
تبدو مسرحية "مش روميو وجولييت" للوهلة الأولى، مسرحية عادية تقدم ثرثرة شعرية مغلفة بإطار موسيقي ولكنها في الحقيقة تعالج قضية شغلت بلادنا طوال العقود الأربعة السابقة منذ أول حادث طائفي صدم الشعب المصري في بداية العقد الثامن من القرن العشرين وتحديداً عام 1981 "حادث الزاوية الحمراء"، والذي كان بداية لانطلاق شرارة الحوادث الإرهابية المغلفة بإطار ديني استهدفت المصريين المسيحيين!
تعالج المسرحية هذه القضية ولكنها تدور حول النتائج وليس الأسباب، فبعد مرور أكثر من أربعين عاماً، لم يعد مهماً مناقشة أسباب تباعد شقي الأمة المصرية "المسلمون والمسيحيون" والتي تم قتلها بحثاً، ولكن المهم هو رصد الوضع السائد المعاصر في العلاقات بين كل منهما بعد عقود من التباعد الذي فرضته جماعات التطرف الديني التي كان لمصر نصيب كبير من أعمالها التخريبية في محاولة لتدمير البلد ككل!
اختار عصام السيد في مسرحية "مش روميو وجولييت" أن يستخدم النزاع بين عائلتي "مونتيغيو" و "كابوليت" في نص شكسبير الأصلي ليغزل منه حدوتة مسرحيته الحالية، فمن صراع عائلتين ورفضهما لحب روميو وجولييت ودخول صراعهما في طبقات من الحقد والكراهية تصل إلى موت كل من الحبيبين ليكونا بمثابة قربان لإحلال السلام، تنطلق فكرة مسرحيتنا ليحل الصراع بين شقي الأمة المصرية "المسلمين والمسيحيين" بديلاً وتكون مدرسة الوحدة هي الأرض التي يدور فيها الصراع بدلاً من مدينة فيرونا بإيطاليا، وتُصاغ قصة حب بديلة لتكون بين المسلمين والمسحيين بشكل عام.
انطلاقاً من هذه القماشة الدرامية يُخيط عصام السيد بمساعدة الدراماتورج محمد السوري والشاعر أمين حداد نص المسرحية، حيث قام السوري باختيار الأجزاء المناسبة من نص شكسبير الأصلي، وعالج حداد الحوار الشعري في صياغة تجمع بين الفصحى والعامية، حيث تنوعت طبقات ومستويات اللغة لتشمل الديالكتيك الشبابي يما يستخدمونه من مفردات ومصطلحات، واللغة العربية الفصحى على لسان الطلاب المتطرفين واللغة العامية المصرية المحكية في الشارع على لسان المدرسين والناظر وباقي الطلاب.
تقدم المسرحية ضمن هذا الإطار العام رصد اجتماعي للسلوكيات التي انتشرت في مجتمعاتنا كنتيجة طبيعية لانتشار فكرة الفصل بين شرائح المجتمع على أساس الدين والمظهر (المحجبة مسلمة وغير المحجبة مسيحية على سبيل المثال)، وبالتالي ومن خلال المقطع الغنائي الذي تردده المجاميع بين الحين والآخر (إحنا ملايين العينين، موجودين ع الناحيتين، بنراقبهم مهما عملوا، مهما راحوا منا فين) نشاهد حالات متعددة للأحكام الاجتماعية الظالمة التي تؤجج الصراع بين الناس وتضعهم داخل زنازين افتراضية ينسجن داخلها الناس خوفاً من العيون القاتلة ما يجعله يعيش في حالة احتقان دائم وعداء لكل ما هو مختلف.
تربط مسرحية "مش روميو وجولييت" أيضاً بين ارتقاء المجتمعات والفنون، فهي تركز بشدة على أن الفن هو الترياق لكثير من أزماتنا الاجتماعية، فنجد ناظر المدرسة الذي لعب دوره باقتدار الفنان عزت زين يقرر أن الحل الوحيد للأزمة الطائفية - التي أشعلها بعض من الطلاب الطائفيين المسلمين مع معلمة مسيحية طائفية أيضاً، باستخدام صداقة اثنين من المدرسين هما يوسف المسيحي (علي الحجار) و زهرة المسلمة (رانيا فريد شوقي)– هو إعداد مسرحية يقدمها الطلاب والطالبات ويفرض عليهم جميعاً تقديم مسرحية روميو وجولييت لشكسبير.
هنا تعود قضية مسرحة المقررات الدراسية إلى الواجهة ودور الفن في تربية وتوجيه طلاب المدارس نحو ترسيخ القيم الاجتماعية وتأكيد أهمية العلم والفن لرقي المجتمعات بعد أن سادت قيم "عبدو موتة" و "الليمبي" بين الأطفال والشباب!
برع المخرج عصام السيد في الاستعانة بمصممة الاستعراضات شيرين حجازي في تقديم حركة مسرحية شديدة الدقة والروعة أيضاً، حيث أشعلت نبضاً حيوياً في أرجاء المسرح باستخدام المجاميع التي لعبت دور الطلاب بين بنين وبنات، للكراسي الخشبية وضربات الأقدام. بدت الحركة منتظمة ومُحكمة ما ساعد على جذب انتباه المشاهدين وربطهم بالأحداث دون لحظة ملل واحدة، وقد ساهمت الموسيقى التي ألفها أحمد شعتوت في إحداث ذلك الأثر أيضاً.
نلاحظ أن المسرحية لم تعتمد على قطع الديكور الضخمة أو الثابتة، كما لم تعتمد على قطع الديكور المتحركة أيضاً، فيما عدا الكراسي الخشبية والسلم المعدني وإفريز شرفة وقطعة فلين مستديرة لتجسيد القمر في أحد المشاهد التي كان الممثلون والمجاميع يستخدمونها ويتحركون بها على الخشبة ومن ثم أخذها معهم إلى خارجها، واعتمد الديكور بشكل أساسي على شاشات جرافيك في عمق خشبة المسرح وجانبيها، تتغير الصور بتغير الحدث فتنقلنا في الزمان والمكان، وهذا ما برع فيه الدكتور محمد الغرباوي مهندس الديكور بالاستعانة بياسر شعلان في الإضاءة ومحمد عبد الرازق في الجرافيك.
برعت أيضاً علا جودة ومي كمال في تصميم ملابس الشخصيات في المسرحية فعبرت بصدق عن شخصيات المسرحية وتحديداً ملابس الطلاب والطالبات والشخصيات التي جسدت حالة النميمة والمراقبة الاجتماعية، حيث صُممت شخصياتها في شكل غربان سوداء.
أعاد المطرب الكبير علي الحجار الدماء لوجوده الفني على الساحة من خلال "مش روميو وجولييت" كما قدمت رانيا فريد شوقي نفسها بشكل مغاير عن طبيعة أدوارها الدرامية في المسرحية، وأكد ميدو عادل شخصيته الفنية وقدراته المتنوعة من خلال لعب دور الطالب الرئيسي بين مجموعة الطلاب، كما استمتعت بأداء دنيا النشار لشخصية الطالبة ميرنا، والمطربة أميرة أحمد لدور تيريز المعلمة المتطرفة، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الممثلين والممثلات الذين قدموا انضباطاً مسرحياً عالياً مع خضوعهم جميعاً لتدريبات صوتية غنائية لتأدية أدوارهم بأداء غنائي لم يتخلله أي أداء غير موسيقي.
مسرحية "مش روميو وجولييت" مغامرة مسرحية قادها دكتور أيمن الشيوي مدير المسرح القومي باقتدار وأثبت من خلالها المخرج عصام السيد أستاذيته وقدرته على تغيير دمائه مهما مر عليه الزمن.
-----------------------
بقلم: أمنية طلعت المصري