06 - 05 - 2025

كَرَّة خاسرة (١ من 2)

كَرَّة خاسرة (١ من 2)

تعلو بين الحين والحين صيحات تدعو المصريين إلى ثورة على الدولة القائمة، ويذكرهم دعاتها بما يكابدونه من ضيق العيش، وغلاء السعر، وكثرة الديون، والمطاعن على أهل الحكم قديمها وجديدها، وقد اشتدت هذه الدعوات وعلا صوت أهلها منذ دخول الثوار دمشق فى سوريا، وإن كلامى فى هذه المقالة أتوجه به إلى فئات ثلاث: دعاة الثورة، والسامعين المستجيبين لهم، والدولة. 

فأما الطائفة الأولى والثانية من دعاة الثورة ومن المنصتين المستجيبين لهم، فهؤلاء أقول لهم: سواء أكنتم أغمارًا أحداثًا فى السن لم تدركوا ابتداءات الثورات فى ٢٠١١م ولا زالت تستهويكم أحاديث الثورات والمُثَوِّرين، أو كنتم كبارًا أدركتموها ولكن أنساكم الزمان حوادثها، فهلم فلنذكر طرفًا من حديث ثورة يناير لنذكر الناسى، وننبه الغافل، ونعلِّم الشاب الغرير، وأول ما نبدأ به أن يسأل المرء نفسه: هل إذا أصاب الألم رجلك تضرب رجلك بمطرقة لتسكنه؟! وهل إذا أصاب الألم معدتك هل تشق بطنك بسكين لتُذهبه؟! لقد كان هذا هو فعل الثورات ببلادنا، فإنه لما ضاق على الناس الحال ومُنِعوا متنفَس المقال، وطال بهم استبداد الحاكم بالحكم فقد أرادوا إصلاح الأمر ورده إلى سواء السبيل، فخرجوا يلتمسون التغيير فارتفع الصوت، ثم ارتفع السلاح، فمازالوا خمسة عشر عامًا يقتتلون فيما بينهم، وينتهبهم أعداؤهم، وقد مسنا نحن فى مصر شىء من هذا التنازع والاختلاف والاقتتال مدة عامين بعد الثورة هلك فيهما من هلك، وتلف فيهما من تلف، فهل وُعظنا؟! 

سيقول قائل جَدِلٌ: لو أُجيبت الشعوب إلى ما طلبت لما وقع ما وقع. فأقول: وهل تحسن بالعاقل المخاطرة ببلاد وشعوب مؤمِّلًا ومعوِّلًا على حُسن ظنه بعدوِّه؟! أم هل يحسن بالمرء أن يَكِلَ نُجح ثورته إلى ما فى قلب عدوه من الخير والحق والرحمة؟! أم هل كنت تظن بخصمك أو عدوك أن يسلمها لك "بيضة مقشرة"؟! لو وقع هذا لكان ضد طبائع الثورات، أما ما شهدناه من تنازع وفتن واقتتال فى سوريا وليبيا والعراق واليمن والسودان ومصر فإنما هو شىء من الطبائع اللازمة للثورات، فكيف زينت لنا غفلتنا وحماقتنا أن الثورة رياحين وأهازيج وزغاريد؟! 

إن من طبائع الثورات كما رأيناها ان تكون هناك كَرَّة لأنصار الدولة المعزولة، وأن يستعين المتنازعون فيها بعصائب مقاتلة مختلفة الأجناس والبلدان، وأن تُقتسم أراضيها وتُحبس خيراتها، ومن طبائع الثورات أن يأتى بعدها الفوضى والخوف، فلا تصنع ثورة وتكلفها طباعًا غير طبائعها! أو فلا تصنعها! أو فلعلك تقول: الحرية سلعة غالية لابد لها من ثمن يُدفع! فأقول: إن كنت تستطيعه أنت فادفعه أنت لنفسك وبنفسك، ولا تشرك غيرك فى غُرمها ولا غُنمها، أما أن تكلف الشيخ المسن والمرأة العجوز أن يخرجا من ديارهما فى الحر والقر فرارًا من موت بالرصاص إلى موت فى صحراء، أو فى عرض بحر، أو بنقص دواء وهم فى سن إكرام وإعزاز، فبئس الثمن وبئست السلعة! وأما أن تكلف النساء المصونات كريمات البيوت أن يغادرن ديارهن هربًا من القتل إلى خيام فى الفلوات والخلوات لا تُكِنُّ إنسانًا ولا تستر عرضًا، فبئس الثمن وبئست السلعة!

وإن كان الثمن أن يكثر الخوف والمفسدون فى الأرض فيخطفون الطفل، ويسرقون السيارة، ويضعون أيديهم على الدار حتى تفتديها منهم بالمال، فبئس الثمن وبئست السلعة!

وإن كان ثمن نجاح الثورة أن يقتطع العدو أطرافًا من البلاد ويحجب عنها أنهارها وخيراتها، فبئس الثمن وبئست السلعة!

وإن كان ثمن التغيير أن أجد حول مدينتى عصائب متنازعة تريد كل منها دخولها قبل أختها وأنا وأهلى محاصرون بين بنادقهم، فبئس الثمن وبئس التغيير!

وليعلم كل منا أن ثورة إن قامت فى مصر فلن تكون كيناير وديعة مسالمة، فإن ناس يناير ٢٠١١م ليسوا كمن جاء بعدهم، وجارك وابن جارك ليس هو الذى رأيته فى يناير ٢٠١١م، ولن تكون أعماله كما كانت من قبل، والعوز الذى فى الناس اليوم ليس كالذى كان من قبل، ومن كانوا يضبطون أمر الناس ليسوا اليوم بين الناس، ولو ذهبنا إلى أننا جميعًا أخيار أبرار إلا واحدًا بالمائة هم الأشقياء المَرَدَة، فهل تدرى كم يبلغ هذا الواحد بالمائة من عدد المصريين؟! إنه يتجاوز المليون شقى مَرِيد، وكلهم يرتقب يومًا كجمعة الغضب ٢٨ يناير ليعيث فى الأرض فسادًا، فهل يقدر مثلى ومثلك على رَدِّ هؤلاء إن خرجوا على الناس فى يوم فوضى؟! ولئن أمنت أنت شر هؤلاء الأشقياء، فهل تأمن شر جارك العاقل الرشيد غير الشقى ولا المَريد؟! انظر، أترى كل هؤلاء العقلاء الطيبين من حولك؟! إذا قامت الثورة فستجد بيتك وأهلك ونفسك تحت إمرة مائة مليون رئيس، لهم مائة مليون هوى، ومائة مليون رأى، ومائة مليون حكم، ففى أزمنة الاضطراب يكون كل إنسان رئيس نفسه، هو يبرم الأمر وهو ينفذه بيده أو بعصبته، ولا يبالى من تأذى ولا من جار على حقه، فهل تطيق ذلك؟! إنك لم تطق رئيسًا واحدًا، فهل تذهب برئيس واحد لتأتى بمائة مليون رئيس؟!

يا داعى الثورة، إن الثورة التى تدعو لها قومك فى مصر لن تكون بين شرطة، وثوار، وحزب (كنبة) كما كانت فى يناير ٢٠١١م، بل التدبير أدهى، والعاقبة أسوأ، والمكيدة أكبر منا جميعًا، فإنك إن كنت فى يناير ٢٠١١م قد خلعت الحاكم والحكومة وبقيت لك أصول البلاد قائمة، فإن ثورة فى وقتنا هذا ليس مضمونًا أن تخلع حاكمًا ولا حكومة، لكن المضمون أنها ستنقص من أصول بلادك: أرضك، وبحرك، وثروتك، وسيادتك لينتهبها الجائع والطامع والمتربص، وكلهم مرتقب ذلك اليوم وقد أعدَّ له عدَّته.

وأنت يا صاحبى المدعو إلى الثورة، فإن كان المتكلم (الداعى إلى الثورة) منفيًّا مهاجرًا أو مطلوبًا مُطارَدًا أو شابا غريرًا أو إنسانًا موتورًا ذا ضغينة، فجميعهم نصيحتهم مدخولة مغشوشة يخالطها الهوى أو الكيد أو  قلة البصر بالأمور، فإذا مرَّت بأذنيك دعوتهم فلتَزِنها، لا أقول بميزان الربح والخسارة، بل بميزان الخسارة الأكبر والخسارة الأقل.

إننى ما أكتب هذا الكلام حفاظًا على قصر أحد ولا عرشه، بل حفاظًا على دار تؤوينى، وعلى نفوس لا أقدر أن ألقيها فى التهلكة، ولتعلم أن كل ذلك الثمن البئيس الذى ذكرته لم أسُقه إليك ضربًا للأمثال، ولا تخيلات أتخيلها، ولا تخويفات أخوفك بها، بل هى أثمان دفعها ملايين الخلق بغير بلد من بلادنا من دمائهم وأموالهم ليُنجحوا ثورة لم يقوموا بها، ولا دعوا إليها، ولا ضامن لنجاحها، ولا كفيل لهم بأن يصيبوا منها خيرًا إن أفلحت وأفلح أهلها!

إن شؤون البلاد لا تصلح فيها وثبة مغامر ولا رمية مقامر، لكن "تسليم وتسلم".

هذا ما أردت إبلاغه إلى أهل الثورة دعاة ومدعوين ومستجيبين، أما أهل الدولة فلهم مقالة أخرى تلحق هذه إن شاء الله..
------------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حَضَروا!