الصحافة والإعلام، هذا العالم المليء بالمتناقضات، هو السلاح الذي يمكن أن يقود الشعوب نحو الحرية أو يدفعها نحو الهلاك. سلاحٌ قادر على كشف المستور وإظهار الحقيقة، لكنه في ذات الوقت قد يُستخدم لدفن الحقائق وتشويه الوقائع.
في أيدٍ نظيفة يصبح الإعلام منارة تنير طريق الأمم، وفي أيدٍ ملوثة يتحول إلى أداة مسمومة تغتال الوعي وتسلب العقول.
حين نقول إن الإعلام هو السلطة الرابعة، فإننا نعني أنه قادر على تغيير مسار الأحداث وصناعة الوعي العام. لكنه، وللأسف، في كثير من الأحيان أصبح يدًا خفية تحركها قوى الفساد وأباطرة المال والسياسة. إعلامٌ يتستر على الجرائم، يُزيّف الواقع، ويُلمّع صور المجرمين والخائنين ليصبحوا أبطالًا زائفين في أعين الشعوب التي أرهقتها الأكاذيب.
انظر حولك وتأمل، كم مرة شاهدنا الإعلام يُخفي الحقائق الصادمة تحت غطاءٍ من التجميل والتبرير؟ كم مرة صُوّرت الكوارث كإنجازات، وشُوّهت صور المخلصين ليُسكتوا عن قول الحق؟ الإعلام المأجور لا يخجل من بيع ضميره، يروج للباطل، ويحمي الفاسدين، ويُسكت صوت المظلومين.
دعونا نفتح الملفات المغلقة، ونكشف الألاعيب المفضوحة. هناك إعلامٌ يُدار بيدٍ خفية، يُستخدم لإسقاط دول وزرع الفتن، بل وتسليط الشعوب ضد بعضها البعض. كيف نفسر أن القضايا الكبرى التي تمس مصائر الأمم تختفي فجأة من العناوين لتُستبدل بأخبار سطحية وموجهة؟ كيف نفسر أن الفقراء والعمال والفلاحين يُطحنون تحت رحى الغلاء والظلم، بينما يُقدَّم في الإعلام أنهم يعيشون في جنة من النعيم؟
إن الصحافة الحرة الحقيقية باتت عملة نادرة، بعدما تسلطت عليها رؤوس الأموال الفاسدة، وحوّلتها إلى دمية تُحركها كما تشاء. هذا الإعلام الفاسد أصبح يُغذي الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ويطمس أصوات الكادحين الذين يناضلون من أجل حقوقهم.
ما الذي يفعله الإعلام حين يغلق مصنعٌ ويُلقى بالآلاف إلى الشارع؟ لا شيء. بل ربما يُقدم الخبر وكأنه انتصار لسياسات الإصلاح الاقتصادي! ما الذي يفعله الإعلام حين تُغلق الشركات الوطنية واحدة تلو الأخرى؟ يصمت، أو يتحدث عن "الشراكة مع القطاع الخاص" وكأنها المنقذ الذي سينتشلنا من أزماتنا.
لكن الحقيقة المرة هي أن الإعلام شريكٌ في هذه الكوارث، فهو الذي يُغيب الحقائق، ويُبعد أعين الشعب عن الجاني الحقيقي، ويلقي باللوم على الضحية. الإعلام الذي يرفع شعار "الحياد" قد أصبح سلاحًا يُوجه نحو صدور الفقراء والمقهورين، يحمي الفاسدين ويُصوّر الكارثة كقدرٍ محتوم لا فرار منه.
كم من إعلامٍ موّجّه يُبرر بيع أصول الدول وثرواتها الوطنية بدعوى الاستثمار والتنمية؟ كم من برامجَ تُذاع لتشغلنا بسفاسف الأمور بينما تُنهب خيرات بلادنا أمام أعيننا؟ كم من قنواتٍ وصحفٍ تُستخدم لتشويه كل من يحاول أن يكشف المستور، ويُصر على أن يبقى صوت الشعب مسموعًا؟
إننا اليوم أمام معركة حقيقية، ليست معركة أسلحة وجيوش، بل معركة وعي. الإعلام الفاسد هو الذي يقتل هذا الوعي، ويصنع أجيالًا لا تعرف شيئًا عن حقوقها أو عن وطنها. يُصوّر المجرمين كأبطال، والمخلصين كخونة، ويُبدل الحقائق ليُرضي أسياده.
لكن هل نستسلم لهذا الواقع؟ لا وألف لا. يجب أن نقف جميعًا ضد هذا الإعلام المأجور. يجب أن نُطالب بإعلامٍ يُعبّر عن آلام العمال والفلاحين، عن معاناة الطبقات الكادحة التي تُسحق يومًا بعد يوم. إعلامٍ يكشف أين تذهب أموالنا، وكيف تُدار مواردنا، ومن المسؤول عن الأزمات التي نعاني منها.
إن الإعلام الحقيقي هو الذي ينحاز للشعب، الذي يفضح الفاسدين مهما كان نفوذهم، ويُحاكم السياسات التي تُفقّر الشعوب لصالح قلة من المنتفعين. الإعلام الحقيقي لا يخاف قول الحق، ولا يخضع للضغوط أو الإغراءات.
نحتاج إلى إعلامٍ يُعيد الاعتبار للعامل الذي يقف تحت الشمس ليصنع مستقبل وطنه، وللفلاح الذي يزرع أرضه ليطعم شعبه، وللمرأة التي تُناضل في وجه أعباء الحياة. نحتاج إلى إعلامٍ يعري كل من يتلاعب بمصائر الشعوب، ويرفض أن يكون أداة في يد الطغاة.
ختامًا، فإن الصحافة والإعلام هما مرآة الشعوب، لكن تلك المرآة يمكن أن تُحطم أو تُشوه إذا كانت في يدٍ خائنة. الخيار أمامنا: أن نستعيد هذه المرآة وننظفها لتُظهر الحقيقة كاملة، أو أن نتركها في أيدي الفاسدين الذين يوجهونها كيفما يشاؤون. الكلمة الآن لنا جميعًا، فلنختار ما يليق بنا وبوطننا، ولنجعل الإعلام سلاحًا للحق لا أداة للباطل.
---------------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
* قيادي عمالي مستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس