رغم زياراتي المتعددة لسوريا كنت بالصدفة ولأول مرة في مدينة الرقة في ديسمبر عام 2010 لحضور مهرجان عبد السلام العجيلي للرواية العربية وهو مهرجان شهير يحمل اسم مثقف كبير ونائب وزير ثقافة سابق وقاص وروائي وشاعر. المدينة صغيرة للغاية تبعد قليلا عن سد نهر الفرات الذي سبق وعشت قريبة منه في العراق لما يزيد عن خمس سنوات. وهي إلى حد كبير من أقرب المدن إلى مدينة حلب (169 كم) التي رأيتها في نفس الزيارة لأول مرة أيضا.
نزلنا في الأرجوان أكبر فنادق الرقة وأظنه الفندق الوحيد الذي يستوعب أعضاء المؤتمر، وقضينا وزوار المكان الليالي متجمعين حول فرقة موسيقية تعزف وتغني الحانا محلية تراثية وحديثة يرددها وراءهم الرواد حول مناضد النبيذ وسرعان ما يسري الحماس بيننا وتتصاعد المشاركة من الجميع. لفت انتباهي صوت الشاعرة وكاتبة القصة التي رحلت هذا العام عن الدنيا فوزية المرعي بشعرها البرتقالي الطويل الهايش الذي تحيط خصلاته بوجهها الأبيض المشوب باحمرار. بما تحمل نبراته من صدق وحنين وجمال.
لاحظت أن الغناء خاصة المواويل يكاد يكون هو نفسه مواويل الشجن العراقية التي خبرتها طويلا ،فلما سألت قالوا لي أن منطقة غرب العراق ممتزجة وشرق سوريا وأن الموسيقى والإيقاع واحد، كان يحلو لي أن أسمع هذا الاستغراق في التعبير عن لواعج الروح، التي تنتقل عبر الصحراء علها تجد بغيتها في الراحلين ربما مروا بالصدفة من هنا، ولأن الأيام كانت سعيدة سعادة لا توصف بسبب الحب الذي أحاط بنا ونحن نناقش تطور الرواية العربية وسط جمهور من المدينة ومن الكتاب السوريين جاءوا خصيصًا من كل أنحاء سوريا.
لم أخطط لزيارة دمشق رغم صدور روايتي مطر على بغداد من دار دمشقية، فقد كنت مدعوة إلى معرض الكتاب الدولي في مارس 2011 لتوقيعها ولكني طلبت من الدار أن ترسل لي بعض النسخ عملا بمقولة خذ ما يأتيك أولا وقلت لهم أريد أن أوقع هنا فلا أحد يدري متى أعود، وهذا ما حدث، وكأني كنت أتنبأ بالتغيرات التي جرت بالحديد والنار في هذا المكان الذي أعطاني أجمل الأيام وأصدقها، لم يمر شهر وقامت ثورة يناير في مصر وتبعها زلزال الربيع العربي الذي بدأ في تونس وطال سوريا ما طالها، وصحوت يوما على احتلال حكومة داعش لفندق الأرجوان الذي سمعت فيه أعذب الألحان السورية وأجملها، تذكرت النساء الرائعات اللاتي تركنا أصواتهن تسري في قلوبنا لتجمع مشاعرنا في لحظة حب واحدة تصعد بنا نحو السماء، وتذكرت الفرح الذي قابلونا به في كل دقيقة عشناها بينهم، وسألت نفسي من أي ثقب أسود بلا قلب خرج هذا الدخان الذي هبب عيشتنا وأمننا واطمئنانا؟ ولم أجد إجابة.
ورحت أتابع بفزع ما يجري هناك حتى قرأت خبرا عن محاكمات تقوم بها لجنة النساء في نفس هذا البناء لسوريات ضبطن يمشين في الشارع مرتديات عباءة سوداء تغطي ملابسهن لكنهن يلبسن أحذية ملونة. لم أفهم لماذا تحاكم امرأة لأنها تلبس حذاء أصفر أو أخضر أو أحمر، وماذا يعني اللون في العرف الإسلامي أو في الفقه الإسلامي، في الدين الإسلامي، في أي شيء يخص الإسلام، لو تقصين المنطق الذي يربط هذه الدعاوى المتطرفة؟ فقلت هي حالة شذوذ تصل إلى أقصى التطرف دون وعي حقيقي بما يقومون به من فعل، لكن أنباء القتل التي تواترت لقتل بعضهن بأيدي الذين حكموا عليهن بسبب لون الحذاء وادعين أنهن مجاهدات لأنهن يمنحن أجسادهن للرجال المجاهدين، وأن معظمهن جئن من تونس لهذا الغرض جعلتني أخاف من سريان فعل الجنون، واتساءل أي فيلم رعب هذا الذي نعيشه؟ وحين انتشرت هذه الأفعال لتصل إلى سنجار ومناطق في العراق قلت لنفسي وهل يعتقد هؤلاء أن الإسلام قام ليجعل النساء للمتعة أو للتضحية بهن؟ من أين جاءوا إلينا؟ وحزنت دون أن أفعل غير المطالبة بالمراجعة لنعرف من أين خرج هذا القيح.
ودارت الأيام وانطفأت مصابيح فرحة الربيع وعشنا خريفا وراء خريف حتى انفجرت أنباء تحرير سوريا من الطاغية ورأيت على الشاشة صور تحطيم تمثال الأسد وتذكرت صور تحطيم تمثال صدام حسين وراحت صور الأرض المحروقة في العراق بعد خروجه تغتال عقلي.
فقد توقفت فرحة أصدقائي السوريين أو معظمهم عند التخلص من الديكتاتورية والسجون والمعتقلات والقتل غير المبرر للأحرار والتهجير وقضايا المخدرات والانهيار الاقتصادي وغيرها وغيرها، وبالطبع لا يمكن أن نناقش فرحة الحرية لشعب عاش تحت الطغيان سنوات، لكني وسط هذا الفرح لم أفرح. أعلم أن لديهم كل الحق في شعور الخلاص الجارف لكن وأنا على مسافة ما من الأحداث لا أستطيع أن أنسى دخول إسرائيل إلى الجولان والاقتراب إلى هذه الدرجة غير المسبوقة من دمشق، ولا طمع تركيا في حلب ولا ما يجري في إدلب ولا، ولا، وصولا لفوضى كونداليزا رايس الخلاقة، ورحت أسأل بعض الأصدقاء عن التقسيم القادم لسوريا وحرق الأرض مثل العراق فقال لي أحدهم يحدث ما يحدث فقد هرب نصف الشعب السوري إلى العراء ومات في البحر عدد كبير وهو يفر بحياته، وقتل مليونان بلا ذنب و لا نعرف كم عدد من هم في السجون. الآن وقت الفرحة وليحدث ما يحدث. لكني لم أستطع انتظار ما سيحدث ولم تمر أيام حتى وصلني فيديو لأحمد الشرع القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام المسلحة التي أسقطت نظام بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية أمير جبهة النصرة إحدى فروع تنظيم القاعدة قبل أن تغير إسمها وتعلن انفصالها عنه يقول: سيتم إنشاء شرطة للأخلاق والآداب في سوريا.
وتذكرت البنات اللواتي لبسن عباءة سوداء وقتلن بسبب حذاء أصفر أو أخضر أو أحمر ظهر تحت العباءة والعياذ بالله. ولم تنقذني الفرحة التي تعم سوريا من إطلاق آهة حزن طويلة تتنبأ بالحالك القادم تحت دعوة النصر. في اللحظة الأخيرة علمت من صديق أن الفيلم قديم صور في إدلب حين دخلوها، وأن موقفهم قد يختلف الآن لأن أعينهم ورقابهم على النظام التركي الذي يسمح بوجود مساحة أعلى للحرية الشخصية!
لم اطمئن فما خفي هو دائمًا أعظم، قلبي على سوريا والعراق وطبعًا فلسطين فمن أين يأتي الفرح؟
--------------------------------
بقلم: هالة البدري