06 - 05 - 2025

«فلاسفة الأندلس» قادة مشعل التنوير في أوروبا

«فلاسفة الأندلس» قادة مشعل التنوير في أوروبا

عانى الفلاسفة المسلمون، من الاغتراب في مجتمعاتهم العربية الإسلامية، كما عانت الفلسفة بطبيعة الحال هذا المصير، إلى أن جاءت الضربة القاضية - كما يرى الكثيرون - على الفلسفة في المشرق العربي على يد «أبو حامد الغزالي»، في كتابه تهافت الفلاسفة، وإن كان الغزالي في كتابه لم يعترض أو يرفض الفلسفة ككل، وإنما خصّص النقد في المبحث الإلهي، التي تعبر عن تصورات ذهنية، للفلاسفة الإغريق التي لا يوجد دليل عقلي عليها، موجزًا إياها في عشرين مسألة عن الخلق بين الإسلام، وبين الفلسفات الإغريقية، عد بعضها موجبًا للكفر مثل القول بقدم العالم، والقول بأنّ الله لا يعلم إلا الكلّيّات، ولا يعلم الجزئيات، وإنكار بعث الأجساد، أما بقية المسائل17 فعدّها موجبة للتبديع لا للتكفير. 

فالقول بأن الغزالي بكتابة تهافت الفلاسفة  قضى على الفلسفة في المشرق أو كان هجومًا قاتلًا كما يرى «عبدالرشيد محمودي» في كتابه «فلاسفة الأندلس» (الدار المصرية اللبنانية)، بحاجة إلى إعادة تقييم من هذه الزاوية، فما جاء به الغزالي قد وافق ما في نفس المجتمع العربي المسلم وقتها الرافض للفكر الفلسفي، وعلم الكلام، فتحذير الفقهاء من علم الكلام وتكفير من يعملون بها أقدم من الغزالي نفسه، فعلى سبيل المثال نرى  «أبو بطة العكبري»  المتوفى: 387هـ  أحمد ممثلي التيار السلفي يقول في كتابه  الإبانة من أصول الديانة المصنفة في موضوع العقيدة، الذي يبين فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وذكر مزاياها ومصادرها، ويحذر من الفرق المذمومة، ينقل عن أبي يوسف قوله: «لا تطلب ثلاثاً إلا بثلاث: لا تطلب العلم بالكلام؛ فإنه من طلب العلم بالكلام تزندق»؛ لأن الشرع يطلب من الأصول التي اتفقنا عليها، وأما أن تأخذه من علم الكلام أو من علم الفلسفة أو المنطق؛ فليس بعلم، بل هو زندقة وإلحاد. 

ناهيك عن انتشار مقولة «من تمنطق تزندق» المنسوبة إلى إمام الحديث ابن الصلاح الشهرزورى في فتوى له المتوفي سنة ٦٤٣ هـ، ثم تكرر استخدامها على يد شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفي سنة ٧٢٩ هـ «من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق».

 كما أن تلقيب أبو حامد الغزالي بحجة الإسلام، ما هو إلا تعبير عن الرضا من الفقهاء عليه بعد مهاجمته للفلاسفة ونجاحه في فعل ما لم يستطيعوا أن يفعلوه، بلغة العقل لا النقل كما فعل السلفيون، وخصوصًا أنه من وجهة نظرهم قد مارس الفلسفة ثم انقلب عليها، رغم أن الحقيقة أن الغزالي هاجم الفلاسفة لا الفلسفة كما يظهر عنوانه تهافت الفلاسفة ولم يكن العنوان تهافت الفلسفة.

 فإذا كان هذا مصير الفلسفة في المشرق العربي فإن الوضع لم يختلف كثيرًا في المغرب العربي، ففلاسفة الأندلس عانوا من هذه الغربة، مثل ابن باجة وابن طفيل، وابن رشد،  وهذا ما ينقله عبدالرشيد محمودي الذي يرى فيه أن الغزالي كان له دور كبير في غربتهم وغربة الفلسفة بعد أن  قتلها في الشرق، ومثل هذا القول يفنده المستشرق «دي بور»، في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام» ترجمة عبدالهادي أبو ريده، الذي يرى فيه ليس بإمكان شخص مهما كان، أن يكون حاسمًا في إنهاء حقل معرفي داخل سياق ثقافي ما، وأن هناك أساتذة الفلسفة وطلابها بعد الغزالي كانوا في المشرق بالمئات بل الآلف لكن لم تعد بالحظوة ذاتها التي كانت لها قبل ما كتبه الغزالي.
ويناقش محمودي في أول الكتاب قضية الفلسفية الإسلامية والصورة المغلوطة عنها حتى في البلدان العربية، من أنها نسخ مشوهة من المذهب اليونانية، وباتت أقسام الفلسفة المصرية تعطي الأولوية  لعلم الكلام والتصوف تاركة أمر الفلسفة الإسلامية، تاركة المستشرقين يكتبون أعمالًا جليلة عن الفاربي وابن سينا وابن رشد وغيره من فلاسفة المسلمين ليس لها نظير باللغة العربية، وتجاهل الفلسفة الإسلامية هو أمر لمسته شخصيًّا أثناء دراستي لعلم الجمال في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة في برنامج الساعات المعتمدة للدكتوراه، كمادة اختيارية للشعبة الأدبية بقسم اللغة العربية بالجامعة، فالاتجاه الشائع هناك أن الفلسفة الإسلامية لم تقدم شيئًا ولم تضف جديدًا على الفلسفة اليونانية، واكتفت بدور الناقل والشارح لهذه الفلسفات القديمة، لكن محمودي ينبه إلى أننا وإن كنا نميل عادة إلى التقليل من شأن الشرح مقارنة بأعمال التنظير والإبداع، علينا أن نتذكر أن للفلسفة في عملها أساليب مختلفة منها الحوار أفلاطون، والمحاضرة أرسطو، والقصة الخرافية ابن طفيل، والاعترافات أوغسطين والغزالي، والسيرة الذاتية ديكارت، والشرح لا سيما إذا كان على طريقة ابن رشد ذات النزعة النقدية الواعية.

أما عن موضع غربة الفلاسفة، وغربة الفلسفة نفسها فهو قديم قدم أفلاطون، ويرجع في التراث الإسلامي إلى الفارابي ومدينته الفاضلة، التي يستطيع الفيلسوف المغترب أن يحتل فيها المكانة التي تليق به، واشترك في هذه الغربة الثلاثة الأندلسيين وعلى رأسهم ابن باجة الذي تحدث في رسالته تدابير المتوحد التي يصف فيها حال الفلاسفة بالمجتمع وما يعنون فعلى المتوحد ألا يصاحب إلا أهل العلم وإن لم يجدهم فعليه أن يعتزل الناس جملة بقدر الإمكان. واشترك معه في هذا الأمر ابن طفيل في قصته حي بن يقظان التي تدور أساسًا حول غربة الفلسفة في بلاد الإسلام، وابن رشد الذي تعرض بسبب دفاعه عن الفلسفة إلى النفي وحرق كتبه، مما قضى على الفلسفة الإسلامية في الاندلس وفي العالم الإسلامي كله.

ويشير المحمودي إلى أن ابن طفيل قد بث فكره الفلسفي في حكاية «حي بن يقظان» الذي يمثل النموذج الرمزي لقدرة الإنسان على بلوغ الحقيقة بعقله المحض، والتي رد فيها بأسلوب غير مباشر على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة، وقد استعان بما جاء فيها من أفكار «ابن رشد» في رده على الغزالي بأسلوب مباشر في كتابه «تهافت التهافت» دفاعًا عن الفلسفة بعد تخليصها مما شابها من خلط وتلفيق.
ومن الجدير بالذكر أن أول من تناول قصة حي بن يقظان هو الشيخ الرئيس ابن سينا (428هـ)، ثم ابن طُفَيل (581هـ)، ثم السهروردي المقتول (587هـ)، الذي أطلق على قصته اسم «الغريبة الغربية»، وأخيرًا ابن النفيس (687هـ)، الذي غير اسم (حي بن يقظان) إلى «فاضل بن ناطق»، وأطلق على قصته اسم «الرسالة الكاملية». وهي في الأصل مأخوذة كما يشير الدكتور غنيمي هلال في كتابه الأدب المقارن قصة «أبسال وسلامان» التي ترجمها ابن إسحاق عن اليونانية، وقد نظم هذه القصة عبدالرحمن الجامي في القرن التاسع الهجري.

 ويكشف محمودي عن دور فلسفة ابن رشد في الحضارة الغربية، فهو رائد التنوير، وقد كان لفلسفته دور في تجديد الثقافة الأوروبية، عندما انتقلت إليهم عن طريق الترجمة، فقد كان له تلامذة في أوروبا منهم الرشديون اللاتنيون والعبريون، وظلت فلسفته تشغل أذهان أوروبا كلها، خاصة عندما فصل في فلسفته بين مجال العلم والدين مما هدد السلطة الدينية الكنسية التي كانت تسيطر على أوروبا في عصورها الوسطى، فقد كان له أثر في جميع الحركات التجديدية  التي تلت الرشديين اللاتdنيين، بما في ذلك ثورة العلم الحديث، حتى ديكارت تأثر و تشابه موقف كانط معه في قضية الأساس الأخلاقي مبادئ الدين مما يرجح تأثره بما قاله ابن رشد، فابن رشد استهل اتجاها فكريا جديدا تابعه فيه بعض المفكرين الأوروبيين  بوعي أو دون وعي.

ويرى محمودي أن ابن رشد قد تعرض لمؤامرة في الغرب سواء في العصور الوسطى أو من الفلاسفة المحدثين كل لأسبابه الخاصة التي يكشف عنها‘ ففي العصور الوسطى أصابت فلسفته أوروبا المسحية بالهوس فقد وصف هناك بالمسيخ الدجال، وبأنه معاد للأديان، وشبه بالكلب المسعور، وجعله دانتي في كوميدياه في الجحيم، واللوحات التي تظهر توماس الأكويني واقفا بينما ابن رشد مطروحا على الأرض مسحوقا، ورسما منهزما بفعل أعمال السحر الأسود، فإن كان العداء كان قويًا لابن رشد وفلسفته وظهر في الأعمال السابقة وغيرها، إلا أننا نرى أنه في الكوميديا الإلهية لم يكن دانتي بوضع ابن رشد في الجحيم _على عكس ما سعى على التدليل عبدالرشيد محمودي في كتابه_ يقصد التقليل من ابن رشد فقد وضعه دانتي في منطقة اللمبو في مدخل الجحيم التي يوجد بها عظماء العالم الذين ماتوا قبل المسيحية أو بعدها ولم يعمدوا،  حيث عذاب الروح لا الجسد. ويضع في هذه المنطقة أيضًا هو من هو «فرجيل» قائد رحلته في عالم الجحيم والمطهر، الذي يلقبه بأستاذه، وينحني له طوال الرحلة دانتي احترامًا، واصفًا إياه بالأب، كما أنه بجوار ابن رشد كبار فلاسفة الإغريق العظام سقراط، وأفلاطون وزينون، ومعهم صلاح الدين وابن سينا، فوضعه في الجحيم في منطقة اللمبو لم يكون إلا لأن ابن رشد لم يعمد،  ومما يدل على تقديره لابن رشد  وضعه «سيجر البرابنتي» معتنق مذهب ابن رشد في الفردوس، فهو أحد الرشديين اللاتينيين 1235م: 1281 أو 1284م الأوربي ذو ثقافة الإسلامية الذي سعى إلى توفيق بين الدين والعلم كما فعل ابن رشد.

ويفسر محمودي العدائي لابن رشد في القرون الوسطى وعلى رأسهم القديس توما الأكويني، إلى الشر الذي رأوه كامنا وراء شرحه لأرسطو الذي فصل فيه بين مجال الدين ومجال العلم، مما أحدث تصدعا في البناء الثقافي السائد بعد أن كان متماسكًا في ظل هيمنة الدين، وسلطة الكنيسة، وأصبح يهدد باستقلال العلم، وهو ما فعلت الثورة الرشدية في فرنسا الذين كانوا روادا لحركة استقلال العلم في أوروبا، فشرح الأكويني لأرسطو الذي سعى لجعله بديلًا من شرح ابن رشد أراد به احتواء العلم تحت عباءة الكنيسة

  ويرجع محمودي سبب تجاهل الفلاسفة المحدثين في القرن السابع عشر بداية العصر الحديث للفلسفة بل ومعادتهم للرشديين اللاتنيين ولأرسطو في بعض الحالات مصلحتهم في عدم الاعتراف بفضل من سبقهم في التجديد، مشيرا بذلك إلى أن ابن رشد وقع ضحية لمنعطف تاريخي كبير التقى عنده أنصار القديم والجديد كل يعادية بطريقته، بإدانته بإلحاد وغيرها من التهم، أو بالتجاهل التام عما فعله وإخفاء دوره في تحرير العلم، والسير في الاتجاه الطبيعي للعلم الأرسطي كما بينه ابن رشد الذي يرتكز على الواقع المشاهد ويخلو من العلل الغيبية وهو ما تسبب في ثورة العلم الحديث، التي رفضت هيمنة الدين عليها.
-----------------
بقلم: د. عبدالكريم الحجراوي


مقالات اخرى للكاتب

«فلاسفة الأندلس» قادة مشعل التنوير في أوروبا