بعض وسائل الإعلام لم يعد لها أي مصداقية في نقل الأخبار، بل أنها تخلت عن وظيفتها الأصلية في إعلام المجتمع ، ونصب بعض من امتطوا قنوات معينة من أنفسهم محللين ووكلاء نيابة وقضاة ، بل ومخبرين أيضا يدسون الوقيعة والفتنة.
أصبح إعلام العرب إزاء أحداث سوريا منقسم إلي فرحتين :
قسم لا يخفي فرحته بسقوط الديكتاتور وزوال الظلم ؛ وقسم ضيق الصدر ، لكنه لا يكاد يطيق سعادته والإعراب عن فرحته ، بالضربات التي يوجهها الكيان الصهيوني ضد سوريا ، فضلا عن فرحتهم المكبوتة إعرابا عن أمنيات بمصائب سوف تحل علي هؤلاء الذين تمردوا علي الظلم .
وذلك القسم الأخير ، يحترف إسدال الغلالات علي الحقائق ، وخداع النفس بالأكاذيب ...وهكذا كان يفعل إعلام بشار ..وهكذا كانت النتيجة .
لا جدال في أن سوريا دخلت نفقا مظلما ، ولن ينقذها سوي جهد أبنائها المخلصين. إلا أن سوريا الوطن لديه كفاءات وقدرات متنوعة ، يمكنه إذا أحسن توظيفها أن يجتاز مرحلة ترتيب البيت بأقل قدر من الخسائر .
ولا يستطيع أي منصف أن ينكر أن فترة حكم أسرة الأسد كانت أشد الفترات التاريخية ظلاما ودموية في حياة الشعب السوري ، ولم يكن هناك مخرج سوي ذلك الذي تم للأسف الشديد ، فقد أغلقت كل منافذ التغيير السلمي المتحضر، وأصبحت الكلمة تواجه بالرصاص والإعتقال والتعذيب ، ولم يعد أمام المجتمع إلا أن يواجه تلك القوة العمياء بالقوة.
أن مشاهد الأفراد الذين خرجوا من السجون مشدوهين ذاهلين، يندي له جبين أي إنسان كريم، كأنها مشاهد عصرية لأهل الكهف ، وقد بعثوا يتأملون إلي الواقع حولهم ذاهلين تائهين.
الفارق أن أهل الكهف في كتاب القرآن ، ألهمهم الله اعتزال قريتهم الظالمة ، واسدل عليهم الحماية سنوات بلا عدد ...أما أهل الكهف في كتاب الأسد ، تم إختطافهم وتعذيبهم وحرمانهم من كل الحقوق.
كيف يطيق إنسان سوي ، أن يفعل ذلك بإنسان مثله ؟!.
في مقابلة إعلامية مؤخراً ، أطلقت علي العدالة المنشودة الآن في سوريا ، إسم "عدالة إنتقالية ذكية "smart transitional justice " ، وحددت بعض قواعدها وأوصافها، وللعلم كتبت في ذلك أيضاً، بعد ثورة 25 يناير ، مطالبا نزع غريزة الإنتقام ، وأخذ مثال جنوب إفريقيا .
ومن ناحية أخري لابد أن أضيف أن صورة الإعدام العلنية بلا محاكمة لأحد أعضاء أسرة الأسد مقززة ومؤلمة ، رغم العذابات التي لاقاها الشعب السوري علي أيدي هذه الأسرة .
إلا أن ما يشجعني هو أنه حتي الآن تبدو التصرفات في مجملها منضبطة ، بالمقارنة مثلا بالثورة الإيرانية التي أعدمت الآلاف في الأسابيع الأولي من نجاح الثورة.
وكما ذكرت ، أتمني أن يلتفت الثوار أكثر إلي تحديات الواقع السوري ، ومستقبل البلاد .
لقد استقر بشار وعائلته في موسكو، ولعلهم يتابعون الآن ما يحدث في الوطن الذي حكموه بالحديد والنار، وربما شاهدوا بعض ضحاياهم علي شاشة التليفزيون لأول مرة ، وأدركوا حجم العذاب والألم الذي عاشته آلاف الأسر في ظل حكم أسرة الأسد لنصف قرن .
وقد يتساءل بعض الناس كيف كان يشعر الأسد أثناء حكمه ، وربما لا يدرك أغلب الناس أن وحوش الجبابرة ، يعيشون دائماً في جحيم الكوابيس ، يتلفتون حولهم خيفة من الإنتقام المتوقع.
أنهم يُعذّبون بمثل القدر الذي يعذْبون به وربما أشد ، وتلك حكمة من الله ، عقابهم في الدنيا شديد ، وينتهي في الغالب بالتجريس علي رؤوس الأشهاد .
هذا ما عرفناه عن اشهر القتلة في التاريخ ومنهم مثلا ستالين وشاوشيسكو وصدام والقذافي وعلي عبد الله صالح .. وغيرهم كثر .
قال تعالي : " وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا" ، وقال ايضا :" وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" ، وكذلك :" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ"
وقَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: "إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ".
------------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق