06 - 05 - 2025

عهد الركود المباركى

عهد الركود المباركى

هذا العنوان هو عبارة مقتبسة من مقالة للكاتب المصرى شادى لويس بطرس، وهو يريد بها الثلاثين عامًا مدة ولاية حسنى مبارك، وقد أعجبتنى كلمته تلك وأوحت إلىَّ بهذا المقال، فاستأذنته أن أقتبسها فأَذِن لى، ومقالى هذا ليس تأريخًا لولاية حسنى مبارك، ولا هو حكمًا عليه ولا على من سيأتى ذكرهم، ولا هى مفاضلة بين سياسات وحكومات، ولا هو تعريض بمن حكم قبله أو بعده، بل لست أعنى بالركود المباركى زمن مبارك فى مصر، بل أعنى به كل ركود وثبات فى كل عصرٍ ومصرٍ، وإنى لأظن أن كثيرًا ممن أرهقهم كثرة التغير والتبدل والتحول فى هذه الخمسة عشرة سنة قد يجدون فى مقالتى هذه ذكرى من طمأنينة وسكينة تأوى إليها نفوسهم القلقة المستوحشة.

فإننا نحن أهل الثمانينيات الميلادية فى مصر والبلدان العربية كنا حقًًا أهل (ركود)، فيه وُلدنا وفيه نشأنا، وصار الركود عادة لنا من لدن مولدنا إلى أن انقضى شبابنا كله أو بعضه، ففى عهد الركود المباركى لم تكن أسماء الملوك والرؤساء لتتغير أوتتبدل كل خمس سنين أو عشر سنين، فهذا مبارك كان رئيسًا ثلاثين سنة، ونظراؤه فى البلاد العربية كانت لهم مثل مدته أو قريبًا منها، فلم يكونوا يتغيرون ولا يتبدلون بتغير الأيام والأزمان، فهذا فهد فى السعودية، وصدام فى العراق، وصالح فى اليمن، وعرفات فى فلسطين، والبشير فى السودان، والقذافى فى ليبيا، وزين العابدين فى تونس، والحسن الثانى فى المغرب، فهؤلاء فُتحت عيوننا وآذاننا على أسمائهم وصورهم فى الثمانينيات فلم يفارقونا حتى العقد الأول من الألفية الثالثة، فكانت بلادهم تعرف بهم لطول ركودهم فوق عروشهم.

وفى عهد الركود المباركى كان الوزراء والأعوان كمثل رؤسائهم لا يتغيرون ولا يتبدلون، فهذا أسامة الباز مستشار مبارك للشؤون السياسية، وزكريا عزمى رئيس ديوانه، والشريف لإعلامه، ووالى للزراعة ونائبًا لرئيس الوزراء، وعمرو موسى للخارجية، وطنطاوى للدفاع، وحسين كامل بهاء الدين للتعليم، وفاروق حسنى للثقافة، وسرور لمجلس الشعب، فهؤلاء لا أقول عرفناهم بمناصبهم، بل عرفنا مناصبهم بهم لطول ركودهم فيها!

وفى عهد الركود المباركى كان سعر صرف الدولار للجنيه المصرى فى الأهرام المصرية راكدًا لا تتغير ثلاثاته الثلاث (٣.٣٣ جنيهًا)، بل لم يكن يتغير موضعه من صفحة الجريدة!

وفى عهد الركود المباركى لم تكن لتكثر تغيرات السياسات صحيحها ولا سقيمها، ولا كان يتوالى عليك غلاء الأسعار ولا تتضاعف عليك الأثمان فى الزمن القريب.

وفى عهد الركود المباركى لو سُئِل أحدنا أن يلقى خطبة لمبارك من قبل أن يسمعها منه لألقاها عن ظهر قلب لا يكاد يسقط منها كلمة! وذلك لكثرة ما تكررت على مسامعك ألفاظها، ولقلة ما كان ينالها من تغيير، فأكثر ما يقال فيها: "الإخوة والأخوات، محدودى الدخل، الديموقراطية، القضية الفلسطينية، السلام الشامل والعادل، والسلام عليكم ورحمة الله" ثم بينها بضع جُمَل!

وفى عهد الركود المباركى لاسيما فى الثمانينيات والتسعينيات لم تكن الآلات الرقمية تأكل أيامك وسنين عمرك كما هو فى الزمن من بعده، بل كانت الأيام أركد، والصلة بين الناس أوثق، والكتاب جليس تأخذ منه فتفهم عنه وتمتثل له من غير أن يلهيك عنه إعجاب ولا تعليق ولا إشعار.

وفى عهد الركود المباركى كانت الحدود بين الأقاليم والبلدان راكدة منذ التقسيم الأول بين (الخواجات الكبار) إلا من تناوش بالسلاح أو تعريض وتلاسن بين إعلاميين وسفراء ثم تنقضى ويلزم كل منهم  حدوده، فلا دول تتبدل، ولا أقاليم تقسم، ولا أحلاف تُحدَث.

ولكن طبع الإنسان السأم والضجر وإن أُطعم المنَّ والسلوى، فلقد تأفف الناس من هذا الركود، وزهدوا ذلك الجمود وأسموه (ترهلًا وتكلُّسًا)، فكنا أواخر عهد مبارك نود لو ألقينا حجرًا فى الماء الراكد، لعله أن يتغير فيتجدد ما تقادم من أمرنا، ويستقيم ما اعوج منه، وينصلح منه ما  اضطرب، فلما كان شتاء ٢٠١١م ألقى الناس فى بلاد العرب أحجارًا فى العهد المباركى الراكد فتحركت وانحلَّ ركودها، ومنذئذ والطوفان يعلو البلاد بلدًا من بعد بلد، وموجًا من فوق موج، حتى تمنى المتمنون يومًا من أيام عهد الركود المباركى!

فأما إن أردت رأيى، فأقول: إن كان التغيير والتجديد رمية مقامر إما أن تصيبها فتربح وتغنم وتسلم، وإما أن تصيبك فتشرد أهلك، وتدخل العدو بيتك، وتتلف الأموال والأنفس والثمرات، فحينئذ يكون الركود المباركى على الحال السيئ أهون شرًّا من التجديد إلى حال أسوأ، فإن التجديد كلما كثر وزاد عن حد السواء والاعتدال والانضباط أورث الأمم فوضى وشتاتًا واضطرابًا، وأورث نفوس الناس مثل ذلك، وهذا أضر عليهم من الركود المباركى.

وخاتمة القول، قد كان ما كان فلسنا نملك ردَّه، وقد علانا طوفان التغيير جميعًا طوعًا وكرهًا، وعاث فينا كيف شاء فنسأل الله السلامة، أما هذه المقالة فليست إلا استراحة فى ظلال الذكريات، أردنا أن نلتمس فيها ساعة من ركود مفقود تسكن إليه نفوسنا فى زمن أرهقتنا كثرة تبدلاته وتحولاته.  
----------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حَضَروا!