25 - 06 - 2025

د.نورهان كمال: هناك ضرورة لاستراتيجية اعتماد متبادل مع إثيوبيا للتخفيف من حدة الهيمنة على منابع النيل

د.نورهان كمال: هناك ضرورة لاستراتيجية اعتماد متبادل مع إثيوبيا للتخفيف من حدة الهيمنة على منابع النيل

تُهدد ندرة المياه فرص التنمية في العديد من مناطق العالم؛ إذ يؤدي كل من انخفاض وتذبذب معدلات سقوط الأمطار، وارتفاع معدلات التبخر، وتكرار موجات الجفاف إلى انخفاض القدرة على الاعتماد على الموارد المائية وتوفرها، وتمثل الأنهار الدولية ما يقدر بنحو 60% من تدفقات المياه العذبة في العالم؛ فيوجد حوالي (276) نهرا دوليا في العالم، حيث تُغطى الأنهار الدولية ما يقرب من نصف سطح الأرض. وفي هذا الإطار يُعرف النهر الدولي بأنه النهر الذي يقع في أقاليم أكثر من دولة، أو يفصل بين أراضى أكثر من دولة، تمييزًا له عن النهر الوطني الذي يقع بأكمله (أى من المنبع إلى المصب) داخل إقليم دولة واحدة ويخضع لسيادة تلك الدولة.

في هذا الإطار يأتى كتاب "الهيمنة المائية وتقاسم المنافع في الأنهار الدولية" للباحثة د.نورهان أحمد كمال، والصادر أخيرا عن دار العربي، والذي يتطرق لأسباب تعاون بعض الدول في أحواض الأنهار الدولية وصراع الدول في أحواض أخرى، ويتضح ذلك في حالتي نهري أورانج وأومو؛ فنهر أورانج هو نهر دولي يتشاطأ عليه (4) دول وهى: جنوب أفريقيا، وليسوتو، وناميبيا، وبوتسوانا. وينبُع نهر الأورانج من جبال ليسوتو، ويمر داخل حدود جنوب أفريقيا، متجهًا نحو الغرب والشمال الغربي لمسافة 2100 كم، ويصب في المحيط الأطلسي الجنوبي عند خليج ألكسندر.ويمثل حوض نهر أورانج نموذجًا للتعاون وتقاسم المنافع بين الدول المتشاطئة على نهر واحد حيث شهدت كل من ناميبيا وجنوب أفريقيا تعاونًا لإقامة سد لتنظيم سريان النهر على الحدود المشتركة بين البلدين، كذلك هناك تفاهم بين كل من ليسوتو وجنوب أفريقيا بشأن مشروع مياه مرتفعات ليسوتو، وهو نموذج لكيفية تقاسم المياه بين دولتين حيث تم بناء السدود لتحصل جنوب أفريقيا على المياه مقابل حصول ليسوتو على عائدات من تلك المياه.

أما نهر أومو فينبع من جنوب إثيوبيا، ويصب في بحيرة توركانا الممتدة على الحدود الكينية- الإثيوبية، ويبلغ طوله حوالي 760 كم، ويمثل حوض نهر أومو نموذجًا للهيمنة المائية التى تمارسها إثيوبيا؛ حيث أقامت إثيوبيا عددًا من السدود على منابع نهر أومو، وأدى امتلاء خزانات تلك السدود إلى انحسار المياه عن بحيرة توركانا- خاصة في سنوات الملء الأول - مما أضر بالأمن البيئي والمائي والنشاط الاقتصادي لبعض الجماعات في كينيا.

تبحث كمال إشكالية وطبيعة وسمات أحواض الأنهار الدولية، وكذلك تحديد أهم العوامل التي تحكم عملية تسوية النزاعات حول مياه الأنهار الدولية، والطرق المستخدمة في تلك التسوية من خلال التعرض لأمثلة الأنهار المشار إليها سابقا. وترى أن التعاون وتقاسم المنافع في حوض النهر الدولي قد يحمل في طياته بذور صراع خفي غير معلن بين الدول المتشاطئة عليه على مستوى الدول، وقد تجلى ذلك في حالة التعاون بين كينيا وأثيوبيا، وذلك رغم الهيمنة المائية الاثيوبية على مياه نهر أومو التي أثرت سلباً على مصالح الجماعات المحلية في الدولتين

وتلفت إلى أن السياسة الخارجية للدولة الأقوى أو القوى الإقليمية في حوض النهر الدولي تعد العامل الأهم في تحديد مسار التفاعلات الهيدروبوليتيكية بين الدول المتشاطئة على النهر الدولي، حيث أوضح التطبيق العملي أن الجانب الإثيوبي اعتمد على تكتيك فرض المشروعات الأحادية كتكتيك إكراهي بالإضافة لـ"الامتثال من خلال المنفعة" وهو إحدى التكتيكات التي تحقق الهيمنة المائية المطلقة أو الأحادية التي ناقشها كلأ من وارنر وزيتون، فاعتمدت إثيوبيا على تصدير الطاقة الكهرومائية لكينيا كحافز فعال للتعاون بينهم. واعتمدت جنوب أفريقيا على الأرباح المادية والاقتصادية التي تقدمها لليسوتو مقابل نقل المياه إلى مقاطعة جاوتنج كحافز فعال للتعاون المائي بينهم.

وتقول كمال أنه في إطار استغلال القوة المادية للدولة الأقوى في التأثير على الدول الأضعف أو فرض الهيمنة المائية المطلقة، نجد أن جنوب أفريقيا لم تستغل فارق القوى بينها وبين ليسوتو في العلاقات المائية، بل لجأت للقوى الناعمة والمفاوضات للحصول على المياه اللازمة لها من نهر أورانج بليسوتو، وإقامة مشروع مياه مرتفعات ليسوتو، على الرغم من أنها مولت انقلابا عسكريا في ليسوتو ودعمت القائمين عليه، لضمان وصولهم للحكم وإبرام اتفاقية المشروع معهم وهو ما يوضح أن القوة المادية وقوة المساومة والتفاوض اللتان تعدان أبرز تكتيكات الهيمنة المائية يمكن أن تكونا عاملين لتحقيق تقاسم المنافع بدلًا من الهيمنة المائية، إذا كان التفاوض بين الدول المتشاطئة على حوض النهر الدولي يدور حول كيفية تحقيق الإدارة المتكاملة للموارد المائية المشتركة بما يضمن تنميتها واستدامتها بدلًا من مجرد التفاوض حول كيفية تقسيم الحصص المائية للمورد المائي المشترك بين الدول المتشاطئة عليه.

أما في حالة نهر أومو: فبالرغم من عدم وجود الفارق الكبير في القوى المادية بين أثيوبيا وكينيا، والتى لا تمكننا من الجزم بأن إثيوبيا هى القوى الإقليمية الكبرى في حوض أومو توركانا، إلا أن إثيوبيا استغلت قوة الموقع الجغرافي كدولة منبع في الهيمنة المائية على مياه نهر أومو، وأقامت المشروعات المائية عليه، دون مراعاة للمعايير الدولية في إنشاء السدود المائية أو إجراء تقييمات مسبقة للأثر البيئي والاجتماعي لتلك المشروعات، مما أضر بمصالح دولة المصب " كينيا" وسكان محيط أومو توركانا.

وبالإضافة إلى سياسات الدول الرامية للهيمنة أو تقاسم المنافع مع الدول الأخرى، تحلل كمال السياق الإقليمي للتفاعلات الهيدروبوليتيكية، وتشير إلى أن دور المؤسسات والمنظمات الإقليمية التي تجمع تلك الدول بات دورًا محوريًا في تمهيد الطريق للتعاون في إدارة الموارد المائية المشتركة بينهم، فقد مثل الاتحاد الجمركي لدول الجنوب الأفريقي " SACU" بداية التعاون الاقتصادي والتجاري الذي أوجد العديد من المصالح المشتركة والإطار المؤسسي للاندماج الإقليمي الذي مهد للتعاون في إدارة المورد المائي المشترك (نهر أورانج) بين ليسوتو وجنوب أفريقيا، وعلى الرغم من عدم وجود أي سياق مؤسسي يجمع ليسوتو وجنوب افريقيا وينظم استخدامهم للموارد المائية المشتركة قبل اتفاقية مشروع مياه مرتفعات ليسوتو عام 1986، إلا أن بروتوكول المجاري المائية المشتركة في الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي الذي تم التوقيع عليه عام 2000 من قبل الدولتين، دعم التعاون المائي بينهما في إدارة موارد نهر أورانج، ولعب السادك دور المنسق الإقليمي للمرحلة الثانية من مشروع مياه مرتفعات ليسوتو، هذا بالإضافة للدور الذي لعبته المنظمات واللجان التي أُنشئت بموجب معاهدة المشروع.

أما في حالة نهر أومو: فبالرغم من أن منظمة الإيجاد مثلت بالنسبة لإثيوبيا وكينيا إطاراً للتعاون بينهم في شتى المجالات، إلا أنها لم يكن لها دور واضح في تنظيم التعاون المائي أو تقاسم المنافع في أحواض الأنهار الدولية المشتركة للدول الأعضاء بها، حيث شكلت الإيجاد برنامج إدارة موارد المياه الداخلية في عام 2012 للعمل على تشكيل نهج مشترك لإدارة المجاري المائية المشتركة في المنطقة ووضع سياسة وبروتوكول إقليميين للمياه. وقد أقرت كل من كينيا وإثيوبيا سياسة الموارد المائية الإقليمية عام 2015، ولكنه لم يؤد إلى نتائج ملموسة في تحقيق التعاون في إدارة موارد نهر أومو المشترك بينهم.

وفي السياق الإقليمي أيضًا تؤكد كمال أهمية المعاهدات الدولية المشتركة بين الدول المتشاطئة على حوض النهر الدولي التي تنظم استغلال موارد ذلك النهر وتقاسم منافعه، وضرورة التوقيع على المعاهدات المنشئة للمشروعات المائية على طول الأنهار الدولية، لضمان عدم هيمنة إحدى الدول على الموارد المائية للنهر الدولي، مما يسبب أضرارَا جسيمة لبقية الدول المتشاطئة عليه. وتعد معاهدة 1986 بين ليسوتو وجنوب أفريقيا التي بموجبها تم تدشين مشروع مياه مرتفعات ليسوتو هي العقد الذي يلتزم بموجبه كل طرف بالالتزام بتقاسم المنافع والتكاليف وسياسات التعويض اللازمة للمتضررين من المشروع على نهر أورانج، في حين أدى غياب الالتزام الإثيوبي بالمعاهدات الدولية، وعدم وجود اتفاقيات ثنائية بين أثيوبيا وكينيا بصدد مشروعات السدود الأثيوبية على نهر أومو إلى أضرار جسيمة بمحيط أومو توركانا وسكانها المحليين، دون أية تعويضات للمتضررين من تلك المشروعات.

وتوضح كمال أن الفيصل الرئيسي المحدد لمسار التفاعلات الهيدروبوليتيكية بين الدول هو قدرة الدولة المشاطئة للنهر الدولي على إدارة مواردها المائية داخليًا بكفاءة، فكلما تمكنت الدولة من إدارة مواردها المائية داخليَا بكفاءة قلت حاجة الدولة إلى التعاون مع غيرها في إدارة المورد المائي المشترك، وكلما عجزت الدول المتشاطئة عن إدارة مواردها المائية داخليًا بكفاءة، كلما زادت مساعيها للتعاون وتقاسم المنافع الناتجة عن النهر الدولي، ففي حالة نهر أورانج أدى عجز جنوب افريقيا عن توفير المياه داخليًا لمقاطعة جاوتنج الصناعية وضعف الإمكانات الاقتصادية لليسوتو آنذاك إلى التعاون في إدارة الموارد المائية للنهر المشترك بينهما، بينما في حالة نهر أومو، أدى نجاح أثيوبيا في إدارة مواردها المائية داخليًا بكفاءة وإمكاناتها الاقتصادية في إتمام المشروعات المائية بمفردها إلى الهيمنة المائية على موارد نهر أومو.

ويشير ذلك أيضاً إلى أن هناك العديد من المحددات المحلية أو الوطنية للدول المتشاطئة التي يمكنها أن تؤثر على التفاعلات الهيدروبوليتيكية في طريق التعاون وتقاسم المنافع أو الصراع والهيمنة المائية. وفي هذا الصدد كان للمجتمع المدني المحلي وجماعات المصالح في الدول المتشاطئة على أحواض الأنهار الدولية محل الدراسة دورًا في تحقيق التعاون في إدارة الموارد المائية المشتركة، حيث أحدث تدخل منظمات المجتمع المدني وجماعات المصالح فارق كبير في الحد من الآثار السلبية للسدود والمشاريع المائية وصياغة سياسات التعويض الملائمة للمتضررين من مشروع مياه مرتفعات ليسوتو. ويتضح أثر غياب إشراك الجماعات المحلية على التفاعلات الهيدروبوليتيكية في حالة نهر أومو، التي أثبتت أن مناقشة تقاسم المنافع على المستوى الحكومي فقط غير كاف للنجاح في إدارة الموارد المائية المشتركة، حيث أدى عدم إشراك الجماعات المحلية التي تقطن حوض أومو توركانا إلى إلحاق الأثار السلبية الموضحة أنفًا بهم دون مشاركتهم في صياغة سياسات تعويض تلاءم خسارتهم.

وترى أنه في الغالب ما تسود الخلافات السياسية حول الموارد المائية المشتركة في الأقاليم الجافة وشبه الجافة، مثل: (حوض نهر الأردن - نهر النيل - نهري دجلة والفرات). وقد أدت التوترات والنزاعات - التي ظلت منذ أمد بعيد هي القواعد التي لا تشكل استثناءات في أحواض الأنهار هذه – إلى منع التكامل الإقليمي. ولكن بشكل عام تقاسم المنافع الاقتصادية يحمي الدول المتشاطئة على حوض النهر الدولي من الانخراط في الحروب والنزاعات المستمرة حفاظَا على استمرارية وجودة المنافع الإقتصادية، يُمكن إعطاء مثالين: الأول هو نهر السنغال حيث تتعاون كل من (مالي - موريتانيا - غينيا - السنغال) لتنظيم تدفقات النهر، وتوليد الطاقة الكهرومائية باستخدام الموارد المشتركة، وتصميم آليات عادلة لتقاسم المنافع. وتشمل الإنجازات التي حققتها منظمة حوض نهر السنغال: بناء سدين، ومحطات للطاقة الكهرومائية، وتنفيذ مشاريع الإدارة البيئية، وإنشاء مرصد البيئة، وتبني اتفاقية لتنظيم استغلال المياه. والمثال الثاني، هو مشروع مياه مرتفعات ليسوتو (LHWP)، الذي تم تصميمه لتسخير نهر أورانج لصالح كل من ليسوتو وجنوب أفريقيا.

وتؤكد كمال أنه حالة حوض النيل عموماً، وحوض النيل الشرقي على وجه الخصوص يمكن تطبيق استراتيجية الاعتماد المتبادل بين مصر وإثيوبيا للتخفيف من حدة الهيمنة الاثيوبية على منابع نهر النيل كما هو الحال في حوض نهر أومو محل الدراسة، ويمكن تطبيق ذلك من خلال عدة إجراءات منها: أولا عقد اتفاقية ثنائية بين مصر وإثيوبيا لنقل وتصدير الطاقة الكهرومائية إلى دول قارة أوروبا عن طريق مصر مستغلة في ذلك موقع مصر الجغرافي المتميز، وخبرتها في بناء محطات نقل وتصدير الكهرباء، مقابل أن تلتزم إثيوبيا بالوصول إلى اتفاقية لملء وتشغيل سد النهضة تضمن الأمن المائي المصري. ثانيا زيادة التبادل التجاري بين الدولتين بزيادة واردات مصر من بعض السلع الاثيوبية مثل اللحوم وبعض المحاصيل الزراعية مثل السكر والحبوب والبن والشاي، حيث تعتمد مصر على استيراد تلك المحاصيل بشكل أساسي لسد احتياجاتها الداخلية ومع ذلك بلغت نسبة واردات مصر من البن والشاي والبهارات من اثيوبيا 4.6 مليون دولار أمريكي فقط في عام 2022 بينما بلغت واردات مصر من نفس السلع وفي العام ذاته من دولة كينيا مثلا 278.7 مليون دولار أمريكي.
--------------------------------
تقرير - محمد الحمامصي