ربما يكون من المفيد في البداية طرح بعض الملاحظات الهامة قبل الخوض في التحليل:
اولا: ليس مفهوما غضب بعض المحسوبين علي "القوميين العرب" حيال أي محاولة لإنتقاد نظام الأسد ، أفلم يكن نظام الأسد (أبا وابنا بل وعائلة إذا أضفنا رفعت الأسد) في سدة حكم سوريا لأكثر من نصف قرن؟ ، وأي حساب للنتيجة التي وصلت إليها سوريا لا يمكن أن يتفادي مسؤولية ذلك النظام.
ثانياً: هل يحاول هؤلاء الربط الشرطي بين "القومية العربية" ، وبين " الاستبداد" وشيوع الظلم والفساد ؟... هل هناك دعاية أسوأ من ذلك لهذه القومية !.
ثالثاً: أن نظام الأسد لم يسقط بالأمس، بل سقط منذ زمن طويل حين قتل ما يزيد علي 40 ألفاً من مواطنيه في "حماه" ، ثم ما يزيد علي نصف مليون خلال الحقبة الأخيرة ، فضلا عن عشرات الآلاف من المعتقلين ، وما يزيد علي 4 مليون مواطن اضطروا للفرار من بلادهم ويعيشون حاليا في الشتات.
رابعاً: ثم أن هذا النظام لم يسقط بسبب أنه كان يقود الممانعة ضد العدو الصهيوني، أو أنه كانت هناك مؤامرة كونية ضده، فمن الثابت أن نظام الأسد (أبا وابنا) لم يطلق طلقة في اتجاه العدو منذ انتهاء حرب أكتوبر 73 ، وقد أثبتت الوقائع الحالية أن الكيان الصهيوني كان أكثر اطمئناناً في وجود ذلك النظام (ولذلك سارع الكيان عندما أحس بالخطر بعد فرار بشار ، إلي احتلال بعض المواقع الإضافية في الأراضي السورية).
خامساً: ليس صحيحا أن تلك الممانعة المزعومة هي التي أدت إلي تمزيق الخريطة السورية، بل أن ذلك النظام تسبب في اقتطاع أجزاء كبيرة من التراب الوطني ، من خلال سياساته الخاطئة التي اعتمد فيها علي الإجراءات الأمنية والقهر ، ولم يعد يستند إلي الرضا الشعبي.
سادسا وأخيرا ( وليس آخراً): كاتب هذه السطور " قومي" ، و"عاشق " لسوريا منذ كانت "الأقليم الشمالي" . ويحزنني مزايدة البعض والمسارعة بإلقاء الإتهامات جزافاً بلا ترو .
ما حدث في سوريا يعكس تلك الخصائص التي تعبر عن أزمة حكم أصبحت تجمع ما بين بعض الدول المتقدمة مع الدول المتخلفة ، والأسباب كثيرة ، أبرزها غياب الثقافة السياسية ، وسيادة المفهوم الشمولي للحكم ، واهتزاز مرفق العدالة ، ضمن خصائص أخري تتعلق بالتاريخ والإقتصاد. ومع ذلك يبقي بشار وأمثاله نماذج متطرفة ، لذلك تتفجر من حولها الدماء.
ولا يبدو أن هناك دواء ناجع لهذه السموم التي تنخر بعض المجتمعات في هذا الصدد، لأن تلك الخصائص السابق الإشارة إليها ليست مجرد أعراض طارئة يمكن مواجهتها بمضادات حيوية مناسبة ، فعلي سبيل المثال "الثقافة السياسية" التي تتعامل معها أغلب هذه المجتمعات بإعتبارها "زائدة دودية" ، لا يمكن علاجها من خلال إجراءات فوقية ، مثل المؤتمرات والندوات ، وما يشبه معسكرات الكشافة.
" الثقافة السياسية " هي نتاج تضافر عوامل عديدة أبرزها الممارسة الديمقراطية في إطار كوابح دستورية مناسبة تحول دون التطبيقات المشوهة .
كذلك تلعب العملية التعليمية دورا هاما ًفي تأسيس المفاهيم الجوهرية التي تصبح كالنقش علي الحجر بالنسبة للأجيال الناشئة.
كما يلعب الإعلام دورا ترويجيا هاما في هذا الصدد ، من خلال تناول ناضج (غير تعبوي) ، كي تصل المعلومات الضرورية للمجتمع (حكاماً ومحكومين).
وأخيرا ، وليس آخراً ، تحتل مكانة لا تقل أهمية الصور التي تعكس المواقع السياسية والتشريعية ، وكذلك الحزبية وجماعات الضغط المختلفة (كالنقابات والجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح) ، فبقدر سلامة وشفافية تلك المواقع وتحليها قدر الإمكان بالتطهر من آفة الفساد والشللية ، بقدر ما تؤثر إيجابيا في الوعي السياسي للمجتمع .
وغني عن الذكر أن مسألتي " المفهوم الشمولي للحكم " ، وتوازن مرفق العدالة وتنزهه عن عاهات السياسة، يتأثران كثيرا بما تقدم حول "الثقافة السياسية" ، التي يمكن اعتبارها في ذات الوقت سبباً ونتيجة لحماية المجتمع من تلك الآثار المدمرة مثل التي كشفت عنها أحداث سوريا .
وربما يمكن أن نري بوضوح الآن ، ما الذي سقط في الشام ، وليس فيه ما نبكي عليه ، بعد أن أبكانا ، وأبكي الملايين من السوريين (واللبنانيين) ردحا من الزمان ، وذهب غير مأسوف عليه.
--------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق