في مثل هذا الوقت عام 2018 .. كانت الزنزانة ثلاجة وجسدي يرتعش ، وقد رفضوا إدخال البطانية التي أحضرتها زوجتي إيمان في الزيارة الأخيرة، رغم أن الطبيب حضر إلي الزنزانة بعد أن تلون البلغم في السعال بلون الدم.
كانت الممنوعات كثيرة ، أبرزها حرماني من أهم متعي وهي القراءة والكتابة، ولكنني تمكنت بعد مناورات متعددة ان اتصرف في قلم رصاص صغير ، اكتب به الآن علي ظهر كرتونة.
تذكرت سطورا كنت أكتبها قبل إعتقالي، وقررت أن أضيف هذه السطور إليها إذا شاء الله أن أخرج حياً.
أراد الله أن استكمل ما سبق بالسطور المذكورة كما يلي :
كنت أتسلم جائزة القصة القصيرة من يوسف السباعي عام 1975 .. وعندما علم أنني ضابط (مثله) ، ابتسم قائلاً : " الضباط هم أفضل الأدباء " .. ولم يكن هناك وقت كي أروي له الحكاية .. لقد دخلت كلية الهندسة التي كنت أحلم بإنهاء دراستي فيها في قسم الطيران ، كي أقوم بتصنيع طائرة مقاتلة مصرية ، ونتيجة لحبي وتفوقي في الرياضيات والميكانيكا (أخذت درجاتها النهائية في الثانوية العامة) .. وبعد انتهاء العام الأول في الكلية كانت حرب الإستنزاف علي أشدها، وكنت لا أطيق استمرار إسرائيل في عربدتها وأنا أتمتع بصحبة رفاقي في حديقة الكلية، وأتذكر رحلة لمجموعة السيكشن إلي القناطر الخيرية، وكنا في الأتوبيس النهري نستمع للمذياع حين تم قطع البرامج العادية لإذاعة بيان عسكري عن استشهاد مقاتلين مصريين أثناء عملية جريئة خلف خطوط العدو ..
لقد انتحيت جانباً ، وجلست وحدي أتأمل إلي النيل الذي كان يعدو إلي جوار النافذة .. حين ذاك جاءت ( م ) ، ودار حديث طويل بيننا حول الحرب والحياة .. هو ذلك الحديث الذي استشهدت ببعض عباراته في كتابات كثيرة لي ، وخاصة الجملة التي قلتها بعصبية : "أنا الوريث الوحيد لأحلامي" .. عندما شعرت بسخريتها من أحلامي ..
لم أستطع أن أقول ليوسف السباعي أن الجميع في الكلية الحربية كانوا يتوقعون أن أخدم في أسلحة تعتمد علي الرياضيات مثل المدفعية والإشارة أو الدفاع الجوي ، ولكنني أخترت الصاعقة لأنني كنت أريد أن أقاتل بيدي أولئك الذين أهانوا شرف الوطن .. لم أقل له أن رفاق الجبهة كانوا يندهشون لخشونتي الممزوجة بالرقة ، فمنتهي القسوة في التدريب ، بينما في المساء كنت أتلو عليهم الشعر ، وأكتب لبعضهم بعض رسائله الغرامية !! ..
تلك هي بعض صفحات تجلت أمامي وأنا أكتب هذه السطور .. جزء من عمري .. قصة شاب مصري عشق لذة العطاء ، وكان الحب رسالته .. لقد امتلأت أوراق خواطره وذكرياته بتفاصيل تلك الأيام .. ودفاتره موزعة بين بيت الأسرة القديم ، وبيته الجديد .. هل يأتي يوم يستطيع فيه أن يستعيد بعض هذه الدفاتر وينفض التراب عنها ؟ ..
--------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق