06 - 05 - 2025

مصر على قارعة طريق دولي!

مصر على قارعة طريق دولي!

خلق الله مصر في ذلك الموقع الجيوستراتيجي الخطير، لكن حكام مصر تفننوا في إضعاف الشعب واستعباده ، فأصبح ذلك الموقع مطمعاً لكل عابر سبيل !.

ومن الثابت مثلاً ، أن وزير المستعمرات البريطاني لورد بالمرستون قد قال  : " أن كل ما أحتاجه من مصر ، هو "حان" علي الطريق جيد الترتيب ، كي يقدم خدماته الفندقية في منتصف الطريق إلي منزلي الريفي ، ولكن لا أريد أن أشتري هذا الحان " ، وكان ذلك رداً علي عرض القيصر الروسي رومانوف تقسيم الإمبراطورية العثمانية بين روسيا وبريطانيا بحيث تكون مصر وكريت من نصيب بريطانيا ، ليس هذا فحسب ، بل أن بريطانيا تحالفت مع فرنسا للدفاع عن تركيا في حرب القرم ضد روسيا ، وهو ما لم يفهمه القيصر ، لأنه لم يدرك أن مخاوف بريطانيا العظمي علي مستعمراتها الشرقية وخاصة الهند ، تزيد كثيراً علي تقاسم غنائم رجل أوروبا العجوز الضعيف ، الذي كان سيسقط علي كل حال .

ولكن ذلك لم يدم طويلاً ، فقد لاحظ ساسة بريطانيا أن نفوذ فرنسا في مصر يتزايد منذ الحملة الفرنسية عام 1798 ، وهو ما سارعت بالوقوف ضده ، ونجح نلسن في تدمير أسطول نابليون ، وبالتالي أصبح جيشه بشكل عملي منقطع عن الدولة الأم ، محاصراً ، منهكاً ، وانتهت المغامرة الفرنسية .

عاد الساسة البريطانيون يساورهم القلق إعتباراً من 1854 ، حين لاحظوا زيادة النفوذ الأجنبي في مصر بشكل عام ، والفرنسي بشكل خاص بعد تولي الوالي سعيد باشا ، الذي كان حاكماً مسرفاً يحلم بجعل مصر قطعة من أوروبا ، وبالتالي استعان بالعديد من الأوربيين، وقد تأثر بعدد منهم، وخاصة فرديناند دي ليسبس ، الدبلوماسي الفرنسي المتقاعد الذي كان يحلم بتحقيق مشروع كبير لحفر قناة تصل ما بين البحر الأحمر والبحر الأبيض .

كان الوالي سعيد منساقاً بشكل كامل مع الدبلوماسي الفرنسي المتقاعد الذي مارس كل إمكانياته ومهاراته في إقناع الخديو ليس فقط في الحصول علي إمتياز حفر القناة ، وإنما بضمان عمالة كافية ورخيصة عن طريق السخرة ، بالإضافة إلي مساحات شاسعة من الأراضي علي ضفتي القناة المتوقعة .

لم يعش سعيد ليري حلمه وحلم ديليسبس ، فقد مات عام 1863 ، وحضرت الإمبراطورة الفرنسية أوجيني حفل افتتاح القناة عام 1869 في ضيافة الوالي إسماعيل ، ذلك الحفل الأسطوري الذي جفف ما تبقي في الميزانية المصرية التي كبلت بأعباء الحفر والتحضيرات المكلفة لذلك الإحتفال المهيب ، والتي تضمنت شق طرق وبناء أوبرا تم تخصيص عرض موسيقي خاص لها بواسطة الموسيقي العالمي فردي، الذي أعد عرض أوبرا عايده خصيصاً لهذه المناسبة .

لقد كان الخديو إسماعيل مجنوناً بالمظاهر، ورغم قلة علمه وثقافته إلا أنه كان وفق معاصريه ذلق اللسان لبقا ، كما كان كريم اليد معطاء في إسراف ، يحلم مثل سعيد أن يري مصر علي مثال الدول الأوروبية ، فقط في المبني دون المعني ، في القشور اللامعة وليس في الحشو المفيد ، فزادت ديون مصر بشكل رهيب ، وفي النهاية تم بيع نصيب مصر من أسهم قناة السويس نفسها لسداد الديون ، وكما كتب مؤرخ بريطاني : " كلما كانت تتزايد المباني الجميلة العالية في القاهرة والأسكندرية ، كانت أحوال المصريين تزداد سوءاً يوماً بعد يوم بشكل متسارع " .

ثم جاء دور الخديو توفيق كي يستكمل الدائرة ، حين تواطأ مع الإنجليز ضد حركة وطنية خاضها الضابط المصري الفلاح أحمد عرابي ، وبعد نجاح الحركة في تثبيت دور البرلمان ( مجلس شوري النواب ) في مناقشة الميزانية دون حضور ممثلي الإشراف المزدوج الإنجليزي والفرنسي ، الذين أضطر الخديو إسماعيل علي قبول وجودهما لضمان سداد ديون مصر، وقد اختلق الإنجليز ذريعة لإحتلال مصر ، رغم أنهم مع الفرنسيين  كانوا يقفون بأساطيلهم علي شاطئ الأسكندرية في انتظار اللحظة المناسبة لضرب الحركة الوطنية المصرية.

وكما يقول المؤرخ المصري د خالد فهمي في كتابه " كل رجال الباشا " : (أن المشكلة الحقيقية في "حكم مصر " تكمن في نقطتين أساسيتين، أولهما الولع بشخصية الحاكم الأبوية والذي باستطاعته وحده انتشال مصر من كبوتها والنهوض بها وحل مشاكلها المستعصية..ووراء تلك الرؤية القاصرة تكمن المشكلة الثانية الأعمق والمعضلة الأعوص ألا وهي عدم الإيمان بأهمية الفرد المصري العادي رجلا كان أم امرأة، من الريف أتى أو من الحضر، في صنع تاريخه والتحكم في مصيره ومقدراته).

لقد وهبنا الله مصر الخصيبة بموقعها المتميز ونيلها وإعتدال مناخها ، فإذا بأهلها يكتفون بمقولة "هيرودوت" بأن " مصر هبة النيل " ، وجلسوا عبر التاريخ علي شواطئه يسبحون بحمد حكامهم ، ويمصون القصب !.
-------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق

مقالات اخرى للكاتب