06 - 05 - 2025

الفقر في بلدنا: مرض وبائي أم وراثي؟

الفقر في بلدنا: مرض وبائي أم وراثي؟

تُطرح هذه التساؤلات دائمًا على ألسنة الكثيرين في محاولة لفهم السبب الجوهري وراء انتشار الفقر في مجتمعنا. البعض يراه مرضًا وبائيًا، ينتشر كالنار في الهشيم بسبب الأزمات المتلاحقة التي تواجهنا. بينما يرى آخرون أن الفقر قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من تركيب الواقع الاجتماعي والاقتصادي في بلدنا، بل هو مرض وراثي تتناقله الأجيال كأحد تداعيات الظروف الحياتية التي لا يقدر عليها الفقراء.

لكن الحقيقة أن الفقر في بلدنا ليس مجرد مرض وبائي أو وراثي، بل هو مزيج معقد من السياسات الاقتصادية الفاشلة، والظروف السياسية المتقلبة، والتحديات الاجتماعية التي نشأت عبر سنوات طويلة من التراكمات. إن الفقر ليس مجرد قلة المال، بل هو انعكاس لضعف الفرص الاقتصادية، وفشل النظم في توفير حياة كريمة لأبناء هذا الوطن. هو انعكاس لتوزيع غير عادل للموارد، ولغياب استراتيجيات حقيقية للقضاء على هذه الآفة التي تطال أعدادًا متزايدة من أفراد المجتمع.

في البداية، لا بد من الاعتراف بأن الفقر ليس مجرد نقص في المال. هو نقص في الفرص، في التعليم، في الرعاية الصحية، وفي العيش الكريم. عندما يُحرم الإنسان من هذه الأساسيات، لا يقتصر الأمر على نقص الماديات فحسب، بل يمتد ليطال كرامته وإنسانيته. وهذا ما يجعل الفقر ليس مجرد مرض يُعالج بالأدوية، بل قضية تُعالج بالتخطيط السليم والإرادة السياسية الجادة.

العوامل الاقتصادية: فشل السياسات وعجز الإنتاج المحلي

إن الفقر في بلدنا جزء لا يتجزأ من سلسلة طويلة من السياسات الاقتصادية التي أسهمت في تدهور الوضع المعيشي للمواطنين. رغم الإمكانيات الهائلة التي تملكها البلاد من موارد طبيعية، لا تزال اقتصاداتنا تعتمد بشكل كبير على الاستيراد، مما يؤدي إلى تهديد الإنتاج المحلي وزيادة الديون الخارجية. ومن ثمّ، يتسبب هذا الاعتماد الزائد على الخارج في ضعف القدرة على توفير فرص عمل مستقرة، مما يؤدي إلى اتساع دائرة الفقر.

من جهة أخرى، فإن عدم الاستفادة الكاملة من الثروات الطبيعية والنفطية في تطوير القطاعات الاقتصادية يساهم بشكل كبير في زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء. فالافتقار إلى مشروعات استثمارية حقيقية تركز على تفعيل الصناعات المحلية وتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي يترك المواطنين عرضة لظروف اقتصادية غير مستقرة، ويجعل الفقر يطال طبقات متعددة من الشعب.

التحديات الاجتماعية والتعليمية: منظومة غير فعالة

أما في المجال الاجتماعي، فالفقر ليس مجرد حالة اقتصادية، بل هو نتيجة حتمية لفشل النظم التعليمية والاجتماعية في تقديم فرص حقيقية للارتقاء. التعليم هو أول ضحايا الفقر، فالعديد من الأسر الفقيرة تجد صعوبة في توفير متطلبات الدراسة لأبنائها، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الأمية وتفاقم البطالة. في واقع الأمر، الفقر والتعليم مرتبطان بشكل وثيق، فمن لا يحصل على تعليم جيد، يفقد فرص العمل التي تتيح له تحسين وضعه المعيشي.

وبذلك، يصبح الفقر حلقة مفرغة تتناقل من جيل إلى جيل. في غياب الفرص التعليمية الجادة والمساواة في الوصول إلى التعليم العالي، يتضاءل الأمل في الخروج من دائرة الفقر. بل إن الأطفال الذين ينشأون في بيئات فقيرة قد يواجهون صعوبات إضافية في الحصول على تدريب مهني أو فرص عمل لائقة.

الظروف السياسية: غياب التخطيط والرؤية المستقبلية

أما في ما يتعلق بالجانب السياسي، فلا يمكننا إغفال تأثير الحكومات المتعاقبة في تصاعد هذه الظاهرة. غياب الرؤية الاقتصادية طويلة المدى، والتخبط في السياسات العامة، أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية. في بعض الأحيان، تُتخذ قرارات اقتصادية لا تراعي الوضع الميداني وتفتقر إلى الحكمة في إدارة الأزمات. وبذلك، يصبح الفقر أحد تداعيات السياسات غير المدروسة التي تفتقر إلى دراسات جدوى حقيقية.

إذا استمر هذا التراخي، وإذا لم يتم وضع حلول جذرية لهذه القضايا، فإن الفقر سيظل مرضًا مستمرًا في هذا المجتمع. من هنا، تأتي أهمية توجيه السياسات نحو إصلاح جذري في النظام الاقتصادي والاجتماعي، مع التركيز على بناء قدرات الإنتاج المحلي، وتوفير التعليم الجيد لكل فئات المجتمع، وتفعيل الإصلاحات الصحية، وتوسيع فرص العمل للشباب.

الفقر ليس قدراً محتوماً

في الختام، لا يمكننا أن نعتبر الفقر قدرًا محتوماً أو مرضًا لا علاج له. هو نتيجة لتراكمات من الأخطاء والتقصير، ويمكن معالجته إذا توافرت الإرادة الجادة للتغيير. إن الحل يكمن في سياسة شاملة تسعى لتقليص الفجوة الاقتصادية، وتوفير فرص تعليمية وصحية للمواطنين، وتنمية القطاعات المحلية بشكل مستدام.

الفقر ليس مرضًا وراثيًا، بل هو نتيجة لغياب العدل الاجتماعي وغياب الفرص. إنه مرض يمكن الشفاء منه إذا ما تعاملنا مع جذوره بشكل واقعي وعقلاني.
---------------------------------
بقلم : محمد عبدالمجيد هندي
قيادى عمالي مستقل ، مؤسس ورئيس المجلس القومى للعمال والفلاحين تحت التأسيس


مقالات اخرى للكاتب

يوم الشهيد.. ملحمة الوفاء وتاج العزة للوطن