لست أزعم أن عندى كثير علم بتفصيل قرار محكمة الجنايات رفع (٧١٦) اسمًا من سجلات الإرهاب، وإنه لم يتسنَّ لى التثبت من أسماء من أُذيعت أسماؤهم فى الإعلام وعلى الصفحات، ولست بمتيقن تمام التيقن أن هؤلاء هم بأعيانهم المشمولون بالقرار، غير أنى أقول إن هذا القرار من الدولة المصرية (على غموضه) إن تم على الوجه المرجُوِّ فأرجو إن شاء الله أن يكون مبادرة خير تنال بنفعها عامة المصريين.
وأقول كذلك إنه ليقع النفع العام بمثل هذه المبادرات الطيبة فلا ينبغى لها أن تشمل سبعمائة اسم، فالأمر فى مصر أكبر كثيرًا من سبعمائة، بل لتكن سبعمائة ألف أو مليونًا وسبعمائة ألف، فإن كلنا يعلم أن طائفة من المصريين مختلفى المذاهب والأهواء لم يكونوا على وفاق وجمهورية ٣٠ يونيو فى أول أمرها، فبعضهم هاجر أو هُجِّر أو خاف أو خُوِّف أو رفضها واعتزلها فخرج من مصر، فلما طالت به غربته وتشوق إلى موطنه وأراد الرجوع خشى على نفسه لسابقة كلمة بدرت منه أو لرأى جهر به أو لمذكرة توقيف تترقبه، ذلك أن المصرى وإن اختلفت مذاهبه وبعدت مشاربه فإنه ليس يصبر عن بلده ولا أهله ولا نيله، فبعض هؤلاء المهاجرين يتعجل الرجوع إلى وطنه مصر فإذا لقى الأبواب مغلقة دونه بأقفال من القضايا والأحكام وترقب الوصول يئس أن يرجع على متن طائرة وطمع أن يرجع على متن ثورة، فإن استبطأ الثورة حرض هو الناس عليها، فإن وجد منهم تجاهلًا بيَّن لهم كيف يثورون، فإن وجد منهم تكاسلًا ضرب لهم أمثالًا بثورات الشعوب، وآخرون غير هؤلاء لا يزالون بمصر لكنهم مُطارَدون يستخفون من الناس ومن سلطات الدولة، أمرهم مضطرب وأعمالهم معطلة، وأرحامهم مقطعة، ويحسبون كل صيحة عليهم، ولِمُهاجِرى الخارج ومُطارَدى الداخل أهل يريبهم ما يريب إخوانهم، ويستوحشون لبعدهم، وينقمون على دولة تحول بين المرء وأخيه، ويتربصون بها الشر، فإذا ما وجد ذلك المهاجر وهذا المُطارَد وهؤلاء الأهل أن الدولة قد سلكت إليهم سبيل صلح، وفتحت لهم باب المراجعة والمفاوضة وجمع الشمل، فلعل ذلك أن يسُلَّ سخيمة صدورهم، وينزع غِلَّ نفوسهم، ويُذهب عنهم ما يجدونه من حنق على الدولة المصرية، ويكفَّ ألسنتهم عن دعوات الثورة، ويكف قلوبهم عن تربص الدوائر بالبلاد، ويكف سعيهم فى التماس النُّصرة من هاهنا وهاهنا، ويكفَّ أهليهم وأقربائهم عن الإصغاء لكل صيحة أو إجابة كل داعٍ، فلو لم يكن لنا نحن المصريين من النفع إلا كفُّ هؤلاء عن مصرنا لكان فى ذلك أعظم النفع، فإن المتربص الكامن أشد ضررًا من عدو ظاهر، فإنك لا تدرى متى يفجؤك هذا المتربص الحانق، ولا تدرى بمَ سيتلقاك إن فجأك، وإنى لعلى ثقة أنه لا أحد من الدولة المصرية ولا من مناوئى الدولة ولا من غيرهم من المصريين يرفض إجابة دعوة فيها جمع شمل الأمة المصرية الكريمة على أمر رشد، فإن فى ذلك تثبيت عظيم لأركان المجتمع المصرى فى زمن حروب عالمية وفتن تموج من حولنا كموج البحر المظلم فى الليلة العاصفة، فلا ينبغى لمصر الحكيمة الرشيدة أن تبحر سفينتها فى ذلك العباب الزاخر وبين ركابها الفُرقة والشقاق، بل واجب الوقت هو التعاضد والتآزر والاجتماع على كلمة سواء لننجو جميعًا، وإلا حطم الموج سفينتنا فلم ينجُ منا ناجٍ.
وسيكون من الخير كذلك النظر فى أمر المحبوسين فى مراكز التأهيل المصرية لا نظر ميزان وحساب، بل نظر تقديم مصلحة الوطن على ما سواها، فإن هؤلاء قد تركوا من خلفهم مئات الألوف من آباء وأبناء وزوجات، وقد تضرروا سنين كثرًا بحبس ذويهم وشتات شملهم، وهؤلاء المتضررون إذا تُركوا كذلك امتلأت نفوسهم حنقًا ممن يحول بينهم وبين إخوانهم وآبائهم وأزواجهم، وكانوا أقرب سماعًا وأسرع استجابة لكل داعٍ يظنون أنه سيرد عليهم غائبهم، ولَنَشَأَت منهم ذرية جديدة لا ترى الدولة إلا سجَّانًا كبيرًا يفَرِّق بين الولد وأبيه، ودولتنا فى غنى عن ذلك الشؤم كله.
لكأنى ببعضهم إذا قرأ ذلك أن يقول: وهل نأذن لهم ليرجعوا فيفعلوا بنا كذا وكذا؟! فأقول: إن عشر سنين قد أشابت الشاب، وأسقمت الصحيح، وأهلكت المريض، وصرفت صاحب الأمل عن أمله، وبغَّضَت السياسة إلى الناس، وأنست كل ذى هم همه، وللدولة أن تأخذ الضمان والعهد الذى يفى لها بأمنها، فلنطمئن قلبًا.
وإننى أرى أن تجديد عمل لجنة الحوار الوطنى والأخذ بتوصياتها فى شأن المحبوسين الذين لم يحملوا سلاحًا ولا سفكوا دمًا وهم كثيرون سيُنَفِّس شيئًا من كرب هذا الوطن، ويخفف عن كثير من أهله، ويرأب صدعًا طال أمده فى البيت المصرى.
-----------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]