06 - 05 - 2025

ظلال الباشا

ظلال الباشا

امتلأت كتب التاريخ التي تناولت سيرة والي مصر محمد علي باشا بالكثير من الأساطير التي ارتفعت بهذا الحاكم إلي ذروة "من أيقظ مصر من ظلامها ، وباني مصر الحديثة ، والمؤسس الاول لمصر المعاصرة .. إلخ " .

هذه الصفات التي نسبت إليه ، كانت علي أفضل تقدير نوعاً من الدعاية التي حرصت عليها الأسرة العلوية ، وكل من عمل في خدمتها أو استفاد منها من الأجانب .

ومما لا شك فيه أن هناك بعض " الحقائق " التاريخية ( إذا صح ذلك الإصطلاح ) ، تؤكد بعض الإصلاحات الجذرية التي قام بها ، إلا أن هناك الكثير من الظلال التي تكتنف السيرة وما تحقق فيها ، أو بالأحري ما لم يتحقق فيها .

هل كان محمد علي يسعي لبناء مصر الحديثة فعلا ، وهل كان ذلك هدفا للإرتقاء بالشعب المصري الذي عاني علي مر القرون السابقة ، أم أنه كان يسعي فقط لبناء مجد شخصي له ؟.

هل يمكن أن يمتزج الهدفان ، بحيث إذا تحقق أحدهما تحقق الثاني بالضرورة ؟.

بما توفر لدينا اليوم من وثائق ومستندات ، يمكن إستخلاص حقيقة لا يكاد يعترف بها أحد ، حتي ثقاة المؤرخين الذين أرخوا لفترة حكم الباشا .

الحقيقة الماثلة أنه بالتأكيد لم يحقق أي تنمية ذات بال للشعب المصري ، الذي استمرت معاناته الموروثة دون تغير جذري ، ومن ناحية أخري لم يحقق محمد علي المجد الذي كان يصبو إليه متأثرا بسيرة نابليون بونابرت ، وانتهت طموحاته العسكرية بحصار اوروبي عام 1840 لوقف مغامراته العسكرية ، حماية للدولة العثمانية التي اعتبرت في الغرب في تلك الفترة بمثابة جدار يحول دون تمدد روسيا القيصرية غربا.

تكشف الوثائق أن الباشا كان شديد الخضوع والتبجيل لممثلي الدول الأوروبية ، يلتمس رضاهم ونصحهم ، ويحاول إثارة إعجابهم ، بينما يحتقر ويضطهد الشعب المصري بنفس الأسلوب الذي سار عليه أسلافه ممن حكموا مصر ، ومن ورثه من الأبناء والأحفاد من بعده .

لقد امتدت ظلال الباشا أحقابا متراكمة ، توارث فيها عرش مصر مختلف الحكام ، وكانت نفس المعادلة تتبدي وتتبدد مثل الظلال التي تحركها شمس مصر ، معادلة تمنح الحاكم وزناً يتوازي مع مكانة مصر وتاريخها العريق ، دفعت بعضهم للمغامرة أو المقامرة ، أو محاولة اللحاق بقشور الحضارة الغربية ، لكنها في أغلبها كانت معادلة في طرفها خضوع ذليل لقوي الغرب وصلت أحيانا إلي حد التآمر معها ضد القوي الوطنية المصرية كما حدث في زمن عرابي ، وفي الطرف الآخر تجبر وإذلال للشعب وإخضاعه بالقهر والفقر والجهل .

لم يدرك الباشا أن " مجده " يستحيل أن يتحقق ، من خلال " السخرة " واختطاف الفلاحين لتجنيدهم عنوة كي يموتوا في حروبه الفاشلة ، كما أنه لم يفهم أن انبهاره بالغرب ، ومحاولاته البائسة لإبهارهم لم تنل سوي السخرية التي عكستها تقارير الرحالة الذين زاروا مصر ، وكتبوا بإشمئزاز عن حالة الشعب المصري الكئيبة ، في حين يواصل الباشوات من أسرة محمد علي بناء القصور والمنتزهات المحصورة عليهم .

لقد كتب أحدهم إلي الوزارة البريطانية يستحثها على احتلال مصر ، لأن علي رأسها " باشا " جاهل محدث نعمة ، وشعب خائف منهك من ضنك الحال ، والسخرة والجهادية التي لا طائل منها ، وتلك فرصة ينبغي إغتنامها ، قبل أن تنقشع ظلال الباشا ، وتشرق شمس مصر .
--------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية السابق

مقالات اخرى للكاتب