العدالة هي أحد المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها بناء المجتمعات السوية، وهي القاعدة التي تقوم عليها كل الأمم العريقة والمتحضرة. ولا يمكن للعدالة أن تتحقق في مجتمع يفتقر إلى الحرية، أو في بيئة تسودها القيود التي تكبل الأفراد عن ممارسة حقوقهم كاملة، أو في ظل أنظمة قمعية تفرض الظلم وتحرص على تقليص الفرص المتساوية. والعدالة الحقيقية لا تتحقق إلا في مجتمع تسوده الحرية، وتغذيّه شجاعة الأحرار الذين يسعون وراء الحق والمساواة بكل عزم وإصرار.
لقد خلقنا الله أحرارًا، وهذه هي الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن ينكرها. الحرية هي الأساس الذي تقوم عليه كرامة الإنسان، وهي الحق الذي لا يجب التفريط فيه. فعندما يُحرَم الفرد من حريته، يُحرَم من حقه في الحياة بكرامة، ويُجبر على العيش تحت طائلة الظلم والقهر. في مثل هذه الظروف، تظل العدالة غائبة عن المجتمعات، ولن تجد صوتًا حقيقيًا يرفع راية الحق إلا من بين الأحرار، الذين يرفضون الخضوع للظلم ويرفضون العيش في ظل القيد.
العدالة الحقيقية لا تكون في قوانين تُكتب في دفاتر وأوراق، بل في قدرتها على الترجمة إلى واقع حياتي يعيشه كل فرد. إنها العدالة التي تضمن للجميع المساواة في الفرص، وتكفل حقوق الأفراد بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي. فإذا كانت القوانين مجرد نصوص جامدة لا تنفذ، فإن العدالة لا تتحقق. بل هي في تطبيق هذه النصوص بما يحقق حياة كريمة للأفراد ويحترم حقوقهم الأساسية. وفي غياب هذه العدالة، لا يكون المجتمع سوى مجموعة من الأفراد الذين يُحرَمون من أبسط حقوقهم الإنسانية في العيش بكرامة، والتمتع بحرية التعبير، والحصول على فرص متساوية في التعليم والعمل.
الظلم لا يتوقف عند كونه اعتداءً على حقوق الأفراد، بل إنه يطعن في روح المجتمع بأسره. فالمجتمع الذي تسوده القيم الظالمة، يصبح مجتمعًا مريضًا لا يستطيع الأفراد فيه تحقيق طموحاتهم أو أن يصبح لهم دور إيجابي في تطوره. وفي ظل هذه البيئة الظالمة، لا يمكن للعدالة أن تنمو، ولا يمكن للأمل أن يبقى حيًا.
إن الأحرار هم أولئك الذين يتحملون مسؤولية الدفاع عن الحق، وهم الذين يعترضون على الظلم مهما كان الثمن. إنهم لا يترددون في رفع الصوت ضد أي تجاوزات تُنتهك فيها الحقوق، ولا يساومون على العدالة. هم أبطال في ميدان الحياة، يقاومون التحديات بالوعي والعقل، ويصرون على تحقيق العدالة، مهما كانت الظروف. هؤلاء الأحرار لا يخشون في الحق لومة لائم، وهم على استعداد دائم لدفع الثمن من أجل تحقيق العدالة والمساواة.
لكن، في المقابل، تبقى الشعوب التي ترضى بالظلم أو تتنازل عن حقوقها، عرضة للاستغلال والتهميش. إن هؤلاء لا يعكسون العدالة الحقيقية، بل يساهمون في تكريس الظلم وانتشاره. هؤلاء لا يستطيعون تحقيق العدالة، لأنهم لا يفهمون معانيها ولا يدركون أبعادها. العدالة الحقيقية لا تُحققها أيدٍ مقيدة أو قلوب خائفة، بل تأتي من أرواح حرة لا تعرف القيود ولا الخوف.
إن وجود الأحرار في أي مجتمع هو الذي يضمن بقاء العدالة حية. فإذا كان العبيد لا يستطيعون أن يحققوا العدالة، فإن الأحرار هم الذين يحاربون الظلم ويعيدون بناء المجتمعات على أسس العدالة والمساواة. فالمجتمع الذي تحكمه العدالة، هو مجتمع يتمتع أفراده بالحرية التامة في ممارسة حقوقهم، دون قيود أو تمييز.
إن العدالة لا يمكن أن تكون مجرد شعار يُرفع في المناسبات، ولا يمكن أن تكون كلامًا يُقال دون أن يُترجم إلى أفعال. إنها في الحقيقة تحتاج إلى أحرار يؤمنون بها ويعملون جاهدين من أجل تطبيقها، ويقفون في وجه كل من يسعى إلى تقويضها أو تجريدها من جوهرها. والعدالة الحقيقية لا تتحقق إلا عندما يشعر الجميع، من الأغنياء والفقراء، من الأقوياء والضعفاء، أن حقوقهم محمية وأنهم يعيشون في مجتمع يعاملهم على قدم المساواة، دون أي تفرقة.
ومن هذا المنطلق، يجب أن ندرك أن العدالة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الأحرار الذين لا يتنازلون عن الحق، الذين لا يتراجعون أمام الظلم، الذين يسعون دائمًا لتوفير الفرص المتساوية لجميع أفراد المجتمع. وإذا كنا نطمح لبناء مجتمع عادل، يجب أن نؤمن بأن العدالة لا تُبنى في ظل الخوف ولا في ظل القمع، بل تُبنى في ظل الحرية، وفي ظل مجتمع تسوده المساواة.
وفي النهاية، يبقى أن نقول إن العدالة ليست مجرد فكرة جميلة أو شعار رنان، بل هي أمانة ومسؤولية يجب أن يتحملها كل واحد منا. فطالما بقي الأحرار في هذا العالم، ستحقق العدالة بفضل شجاعتهم وإصرارهم، وستظل رايتها مرفوعة في كل زمان ومكان.
---------------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
* قيادي عمالي مستقل ، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس