05 - 12 - 2024

فيلم الهوى سلطان | قصة عشق عادية أم صراع الطبقة الوسطى مع مفردات الاغتراب داخل الوطن

فيلم الهوى سلطان | قصة عشق عادية أم صراع الطبقة الوسطى مع مفردات الاغتراب داخل الوطن

لماذا قررتُ الذهاب فجأة إلى السينما بعد استكانتي المنزلية أمام المنصات الكثيرة التي اشتركت بها وأطالع عبرها عالم الدراما بكل اللغات تقريباً؟ لم تكن إطلالة منة شلبي عبر إعلانات فيلم "الهوى سلطان" هي السبب، فرغم إعجابي بها كممثلة متميزة، إلا أن المعتاد هو انتظاري لعرض العمل عبر إحدى المنصات ومشاهدتي له في صالة منزلي بهدوء، ولم تكن المؤلفة والمخرجة هبة يسري هي السبب أيضاً ولا أي من أبطال الفيلم الذين أعشقهم جميعاً وأقدرهم كممثلين مهمين على الساحة الفنية سواء كان أحمد داوود أو أحمد خالد صالح أو جيهان الشماشرجي أو القديرة سوسن بدر. إذاً، ما السبب؟ 

ببساطة يحمل الفيلم اسم أغنية شهيرة جداً لسلطان الطرب جورج وسوف "الهوى سلطان" ويغني الأغنية الرئيسية للفيلم الحنجرة المعجزة، بهاء سلطان – ما كل هذه السلطنة التي يضمها الفيلم يا رب؟! 

كانت أغنية بهاء سلطان "أنا من غيرك" هي الدافع الرئيسي والمحرك الأوحد الوحيد الذي جعلني اتخذ القرار في ثانية واحدة وأنا أبكي مع قوله "أنا من غيرك بتوه توهان، أنا من غيرك مليش عنوان" أو قوله "أصل التفاصيل أجمل بكتير بوجودك فيها، أتاريك إنت يا حبيبي إنت اللي محليها"، يقولها بصوته الذي يمر على القلب فتجرحه، بكلمات الأغنية التي نحتتها بعذوبة الشاعرة منة القيعي ووضع ألحانها باحترافية عزيز الشافعي. 

يبدو الفيلم ظاهرياً، مجرد قصة حب عادية، لفتى وفتاة تربطهما علاقة قرابة أو صداقة عائلية منذ الصغر. نشَآ سويا وازدادت علاقتهما حميمية مع مرور الأيام والسنين، يعيشان معاً حياة عادية بسيطة دون شعارات كبرى للطموح وتحقيق النجاح المدوي، وفي الوقت الذي ترضى فيه الفتاة بحياتها وتعلن بوضوح أنها لا تطمح إلى المزيد، يعيش الفتى مؤرقاً ويحلم بخطط مختلفة ومستقبل يشابه هؤلاء الذي يطلون علينا من شاشات الهواتف الذكية عبر صفحات تطبيقات التواصل الاجتماعي، وفي نفس الوقت تعاني الفتاة من أزمة نفسية تسبب فيها والدها الذي تزوج في نفس عام وفاة والدتها فهجرته لتعيش وحيدة. 

إلى هنا، لا يوجد شيئاً يصنع دراما تُضحكك وتُبكيك وتشدك على مقعدك منتبهاً حتى لحظة النهاية في الفيلم، ولكن هبة يسري استطاعت باحترافية شديدة أن تنسج خيوط هذه الحكاية العادية لتجعلها غير عادية، فتمكنت ببراعة أن تُخرج الضحكات لتملأ صالة السينما، وأن تسحب التنهيدات من صدور الفتيات حتى نسمعها جميعاً بوضوح، وأن تغرس خنجراً في قلبي بشكل شخصي والفتاة "سارة" تقرر الذهاب لأبيها في المشاهد الأخيرة من الفيلم وتحتضنه ثم تقول له أنها لا تريد سوى هذا الحضن. 

قد يرى أغلب الناس أن الفيلم مجرد قصة حب عادية كُتبت وأُخرجت لشاشة السينما باحتراف، ولكن هذا الفيلم لو نظرنا له من زاوية نقدية اجتماعية، سنجده يناقش قضية في منتهى الخطورة في عصرنا هذا، ألا وهي قضية الاغتراب داخل الوطن الذي يعاني منها شريحة عريضة من الطبقة الوسطى، فلو جاز لنا أن نُقسم الطبقة الوسطى إلى ثلاث طبقات (طبقة وسطى عليا ووسطى وسطى ووسطى دنيا) فإننا هنا نتعامل مع طبقتين داخل الطبقى الوسطى المعاصرة، الطبقة الوسطى الوسطى التي كانت عُليا في السابق ثم نزلت درجة لأسباب اقتصادية، والطبقة الوسطى العليا التي حافظت على مكانتها بالدخول إلى منظومة القيم الرأسمالية العالمية والتي تتسم ببعض الملامح البارزة الآن مثل السهر في النوادي الليلية الحديثة باستمرار والتحدث باللغة الإنجليزية بين الكلمات العربية والحياة التي تمتلئ بأنشطة كثيرة جداً وصاخبة دون لحظة صمت تحتويهم للتحدث أو الاستمتاع بوقت بسيط دون تفاصيل معبأة بالتسوق والذهاب إلى أطباء التجميل وشراء أحدث الأجهزة والاطلاع على ثقافات الغرب باعتبارها الأرقى والانغماس في دائرة عمل وتطلعات مادية لا تنتهي. 

تمثل سارة "منة شلبي" و "علي" أحمد داوود الطبقة الوسطى الوسطى التي تتمتع ببقايا مزايا اقتصادية فكل منهم يمتلك سيارة ولكنها سيارة عادية ويعملان في وظائف عادية ويعيشان في بيوت عادية بمنطقة مصر الجديدة ويمتلك والد سارة شالية على البحر في أبو تلات حيث "الساحل الطيب" المسكين المهجور الذي نسى الناس طريقهم إليه، بينما يجسد أحمد خالد صالح شخصية الدكتور رامي، وتجسد جيهان الشماشرجي شخصية ليلى، وكليهما يمثلان الطبقى الوسطى العليا التي تندمج في مظاهر الحياة الرأسمالية التي تلمع بكل تفاصيلها بدءً من ركوب السيارات الفارهة وارتياد الملاهي الليلية ذات الطابع الغربي وارتداء آخر صيحة من الملابس "الترندي" كما يقولون، ويعيشون في صخب هذه التفاصيل بشكل يومي. 

في رأيي هنا يكمن الصراع في الفيلم، عندما يقرر علي الابتعاد عن سارة لأنه يرى أن وجودهما سوياً يعطلهما عن المضي قدماً واختيار شريك حياة مناسب، حيث يرتبط علي بليلى وترتبط سارة برامي، ونبدأ هنا في مشاهدة تفاصيل التقاء الطبقتين (الوسطى الوسطى و الوسطى العليا) في مواجهة صاخبة وإحساس كل من علي وسارة بالغربة داخل هذه المنظومة المُرهقة للإنسان الحديث، والذي عليه القبول بالدخول في السباق ليجري طوال الوقت ويعيش مفردات حياة تُمرضه، مثل المشهد العبقري لشخصية علي وهو يسهر مع خطيبته ليلى في ملهى ليلي ويفعل مثلما يفعل أصدقاؤها فيشربون "شوتات التكيلا" مرة واحدة وبسرعة ثم ينخرطون في نوبة من الرقص الصاخب، وفجأة يصيبه الإحساس بالإعياء ويبدأ في تلمس طريقه نحو الحمام، ليدخل إلى حمام السيدات مخطئاً ويبدأ في التقيؤ وبينما تساعده صديقات ليلى التي تغيب عن المشهد يخبرهم بأنه مريض ويرغب في الذهاب إلى المستشفى. 

هنا نتساءل: هل هذه النوعية من الحياة المليئة بملابس السهرة وشوتات التكيلا والرقص الصاخب والحرص على التسوق لارتداء أحدث الموديلات باستمرار وارتياد العربات الفارهة والتنزه في ما يطلقون عليه الساحل الشرير بكل مفرداته، هو ما يجب أن تكون عليه الطبقة المتوسطة التي يحاول أغلب أفرادها الآن أن يصلوا لقمتها في سباق الثراء الزائف، أم البقاء على شاطئ الحياة العادية التي كان يحياها علي وسارة هو الهدف الذي يجب أن نحافظ عليه؟ 

هذا الصراع المحتدم بين الطبقتين الوسطى والعليا داخل الطبقة الوسطة وأزمة التغريب التي نواجهها في مجتمعاتنا منذ عصر الانفتاح في أواخر سبعينيات القرن الماضي والتي وصلت إلى ذروتها الآن، هو الفكرة الرئيسية التي يدور حولها فيلم "الهوى سلطان" للكاتبة والمخرجة هبة يسري، والتي نسجت داخله قصة حب عادية ربطتنا على مقاعدنا طوال ساعتين تقريباً بلا ملل، لتنهي الفيلم بسؤال مفتوح وكذلك بنهاية ترضي الجميع حيث تعود سارة لأبيها وتتزوج من علي حبيب عمرها الذي لم تكن تدري معه أنهما شريكان حياة وليسا مجرد أصدقاء طفولة. 

فيلم الهوى سلطان تجربة إبداعية مهمة تخبرنا عن روعة الكتابة بهدوء ومزاج ودون استعجال للجري بهدف احتلال قمة الإنتاج الدرامي وسط هذا الصخب الإبداعي الذي قلما نخرج منه بعمل يمثل علامة حقيقية في الإنتاج السينمائي أو الفيديو أو حتى المسرح. 
------------------------------
بقلم: أمنية طلعت المصري