ما هذا العنوان ، هل ثم فلسفة جديدة ، هل هو فرع مستحدث ، نعم فلسفة لكنها ليست جديدة وإنما مستمدة من واقعنا المعيش الذي نحياه ، بكل أتراحه وأفراحه ، فالفيلسوف جزء لا يتجزأ من هذا الواقع ومن ثم ينبغي عليه الاهتمام بقضاياه ومشكلاته.
لا أريد أن أصب وابلا من اللعنات على زماننا لأن في ذلك مخالفة شرعية ، فالله تعالى قال لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر.
لكن ما نراه الآن ونسمعه ونشاهده لشئ عجاب يثير الدهشة، لا أقول في مجال واحد بل كلما ولينا وجوهنا شطر موضوع معين في مكان معين وفي توقيت معين ، تجد حرقة الدم أمامك وخلفك ومن فوقك وحتى من تحتك ، تجد ما يجعلك تثور وتنفعل فتصاب إما بجلطة فى القلب أو في المخ أو تصاب بالسكري أو الضغط ، المهم ، لن ترحل من هذا العالم المادي بكل تقلباته وتغيراته وتناقضاته إلا ومصابا بحرقة الدم ومرض من الأمراض العصرية التلازمية .
وكأننا محكوم علينا ألا نهنأ أو نرتاح قليلا، بل صدق الله ومن أصدق من الله قيلا "لقد خلقنا الإنسان في كبد"، نعم خلقنا الله تعالى في نصب وتعب وتلك هي سنة الحياة عندما يكون التعب طبيعيا من السعي خلف الرزق وطلبه ، من الإصابة بمرض معين سواء كان مرضا عضويا أو نفسيا.
لكن إذا كانت حرقة الدم مفتعلة ومتعمدة وعن قصد ، فما عسانا نحن أن نفعل.؟!
فى الأسواق التي تعوذ رسولنا بالله عند دخولها ، تجد ما يجعلك تثور ، غش فى الموازين ، مضاربة في الأسعار ، تلاعب في جودة السلع المعروضة ، إخفاء واحتكار بعض السلع ، فى الصيدليات تجد ما يجعلك تنفعل وتغضب ، قد تكون مصاباً بمرض مزمن أو قريب لك عزيز على قلبك فلا تجد الدواء فيزداد الأمر سواء ، وقد ينفعل المريض وقد يحترق دمه وأعصابه، وقد يموت على حاله وعلى الفور.
وإذا ما تحدثنا تجد الردود حاضرة مبررات واهية.
حتى في أفران الخبز ، تجد الغش على أشده والسرقة عيانا بيانا أمام مفتش التموين المكلف بضبط هؤلاء ، تجده جالسا وأمامه الشاي والقهوة وأفخم أنواع السجائر، والدقيق يهرب أمامه وكأنه يخرج لسانه للغلابة قائلا (احمدوا ربنا أنكم لاقيين عيش).
وإذا تحدثت تقوم القيامة بينك وبين كل الحضور المصابين بالسلبية.
فضلا عن الوساطة والمحسوبية ، حتى رغيف الخبز تشتريه بواسطة وإلا ستقف فى طابور طويل يصل طوله أمتار.
أليس كل ذلك مدعاة لحرق الدم ، ومن لا ينفعل فقد أصيب بتبلد انفعالي أو أصيب بتخمة من اللامبالاة.
قيسوا على ذلك إذا أردنا قضاء حاجة في مصلحة حكومية ، تجد البيروقراطية والروتين القاتل (فوت علينا بكرة أو شخلل جيبك)، ليس في مصلحة حكومة بعينها بل في كل المصالح ، فهل أتاكم نبأ تراخيص المرور ، الأحياء وما أدراكم ما الأحياء وما يحدث فيها.
المدارس الإلزامية وقت استلام ملفات التلاميذ سواء الروضة أو التجريبي أو الصف الأول الابتدائي ، تشتغل السمسرة، بالرأس ، أقصد التلميذ عليه كذلك ، وأنت وحظك ممكن تقدم وتدفع ألف وممكن تدفع ألفين ، والحجة تبرعات للمدرسة ، سنشتري مراوح للفصول ، سنشتري ورقا وأقلام سبورة ، سنصلح المقاعد ، سنقوم بدهان المدرسة ، المدرسة تقبل ألف تلميذ في ألف جنيه ، هل كل ما يتم جمعه سيذهب في مصرفه الحقيقي أم سيوزع على الحاشية وبطانة السوء والسنيدة .
أليس كل ذلك مدعاة لحرق الدم وإذا ما تحدثت وقلت لأولياء الأمور اكتبوا شكاوي يخافون ، زرع الخوف في قلوبهم ، فضلا عن الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية في المدارس وفرض جباية على أولياء الأمور ، ادفع تحصل على البركة وينجح إبنك حتى لو غبي لا يستحق النجاح ، والنتيجة خريج فاشل لا يفيد المجتمع في شئ.
حتى في الجامعة تجد صنوفا وصنوفا من حرق الدم ، بح صوتنا من القول أن امتحانات البابل شيت لا تسمن ولا تغني من جوع في تقييم الطلاب ، فكيف أقيم طالبا في قسم اللغة العربية أو الفلسفة أو التاريخ عن طريق ضع علامة صح أو علامة خطأ أمام العبارات الآتية أو أكمل العبارات الآتية ، أليس ذلك مدعاة للغش بين الطلاب وتضييع الفرص على الطالب المتفوق حقيقة ، النتيجة معيد فاشل مرد على الغش أو الفهلوة (حادي باي كرنب زبادي)، أو يضع سماعه في أذنه ويغش الامتحان ،(لعن الله السماعات ومن صنعها ومن استعملها ومن ساهم في الغش من خلالها)، أضاعت أجيالا بعينها .
قلنا أن التقييم الحقيقي لا يكون إلا من خلال السؤال المقالي الذي يقيم قدرات الطلاب الحقيقية ويخرج الموهبة الكامنة بداخلهم
وعندما يستفيق المسؤول تكون (خربت مالطه)، أليس كل ذلك مدعاة لحرق الأعصاب .
ناهيكم عن بعض الأساتذة معدومي الضمير الذين يتاجرون بالعملية التعليمية والتربح غير المشروع من ورائها عن طريق استغلال الطلاب وبيع الكتاب لهم عدة مرات بحجة تلخيص الكتاب ، وتلخيص التلخيص ومراجعة ليلة الامتحان ، أي ابتزاز هذا وأي اسفاف هذا ، إن ما يحدث لهو الهزل بعينه ، فضلا عن الهدايا التي يقدمها بعض الدارسين الوافدين من بلاد (البترودولار)، للأساتذة المشرفين عليهم لمساعدتهم فى إنجاز رسائلهم أو بمعنى أوضح كتابتها لهم.
ليس هذا وحسب بل والانهيار القيمي الذي أصاب كثيرا من شباب الجامعات ، تلفظ بأبشع الألفاظ ، سب ولعن وطعن وقذف وتطاول على الأساتذة ، لا مبالاة وعدم اهتمام بحضور المحاضرات ، اختلاط سافر بين الجنسين ، أمور جد جميعا مدعاة للتراجيديا والبؤس ، ما حالنا الذي وصلنا إليه.
أزيدكم من الشعر بيتا ، جميعنا يعلم أن دور العبادة مكان للراحة والطمأنينة والسلام الداخلي ، أصبحت الآن مدعاة لحرق الأعصاب ، مكبرات صوت (ثورة ميكرفونات) بأصوات منكرة ، إن أنكر الأصوات ، الكل بصوت حنجوري بحيث لا نستطيع أن نميز الكلمات ولا قراءة الآيات ، فضلا عن الحكاوي ، وكأن المساجد أضحت مقاهي للتسلية ، كل من معه حكاية ، يجلس بجوار صاحبه بالجنب يحكي له بصوت مرتفع. فتضيع قدسية المسجد وروحانية الصلاة ، طبعا كعادتي لا أعمم الأحكام ولا أطلقها على عواهنها، وإنما هو واقع مرير نحياه.
أليس ذلك مدعاة للقلق الوجودي والتوتر النفسي والانحدار الأخلاقي.
حتى في مجال الكتابة ، تكون بارعا ماهرا في فن من فنونها سواء كتابة الشعر أو النثر أو القصة أو المقال وتراسل الصحف لينشروا لك ، فلا حياة لمن تنادي ، الوساطة والمحسوبية هي التي تكسب ، أما الموهبة فأنت وحفظك (بختك يا أبا بخيت)، حتى من يتقدمون لنيل جوائز الدولة لها حسابات أخرى ، آخر شئ يتم للتفكير فيه هو الموهبة.
ليس هذا وحسب بل التقدم للالتحاق باللجان العلمية سواء لجان الترقيات أو لجان المجلس الأعلى للثقافة ، يتم الاختيار بالوساطة والمعرفة والمحسوبية (شيلني واشيلك) ، حتى في تحكيم البحوث للترقي ، من هذا ، يتبع من، لو مرضي عنه ينجح بغض النظر عن بحوثه حتى لو كاتب (ورور يا جرجير، وحراتي يا فول)
مالكم كيف تحكمون.
كل هذا مدعاة لحرق الأعصاب الذي قد يودي بصاحبه إلى إما أن يطلق الحياة طلقات بائنة وينزوي جانبا أو يصاب بالمرض النفسي أو يصير جزءا من هذا العفن الجرثومي.
ليس هذا وحسب بل حتى حرق الدم وصل إلى بيوتنا وما أدراكم ما بيوتنا ، فأولادنا وأزواجنا إما أن يكونوا مصدر سعادة لنا في الحياة أو مصدر تعاسة وشقاء.
مصدر سعادة عندما يكونوا صالحين نافعين طائعين غير عاقين والعكس صحيح.
ثم المصيبة الكبري التي هي مصدر لحرق الدم ، ما نراه ونشاهده من تقتيل وذبح وهدم منازل وبيوت على رؤوساء إخواننا المجاهدين في فلسطين وغزة ، واستباحة حرمات المسلمين وحرمات المسجد الأقصى المبارك ، وسياسة الكيل بمكيالين ، ونحن واقفون متفرجون متحسرون لا نملك إلا الدعاء وهذا أضعف الإيمان ، أليس ذلك مدعاة للحيرة والقهر والموت كمدا.
إن واقعنا المعاصر الذي نحياه يعج بصنوف حرق الدم وحرق الأعصاب والقلق والتوتر النفسي الذي فرضته ظروف وضعنا أنفسنا بأنفسنا فيها عن طريق الصمت القاتل واللامبالاة ، لكن لا أحد يظن أنني مقنطا إياكم أو آيسا من رحمة الله تعالى ، فكما يوجد الغث يوجد الثمين ، كما يوجد ما يسبب القلق والحيرة والاضطرابات النفسية ، يوجد ما يدخل على قلوبنا السعادة والسرور حتى لو كانت سعادة لحظية ، بأيدينا أن نجعلها سعادة دائمة
نعم إنها فلسفة حرق الدم ، لكن كيف نحولها من فلسفة حرق الدم إلى فلسفة تلطبف الدم وتطبيب الروح ، هذا هو السؤال.؟!
-----------------------------
بقلم: د. عادل القليعي
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان