06 - 05 - 2025

تراجيديا الفلسفة في واقعنا المعاصر

تراجيديا الفلسفة في واقعنا المعاصر

* اغتيال الفلسفة في مصر كارثة وجريمة يندى لها جبين كل مفكر حر
* ليست أول مرة فقد تعرضت لهجمات شرسة منذ كهنة المعابد قديما ومن غلاة المدرسة السلفية ضد الطهطاوي ومحمد عبده حديثا

القصة ذات النهاية الحزينة، وهذا ما يعرف بين الناس، ولكن أحدا لم يتعمق في معنى اللفظ. تراجيديا كلفظ اغريقي تعني حرفيا «أغنية الماعز»، وسميت بهذا الاسم لأن العروض المسرحية من نوع تراجيديا دائما ما كانت على شكل أغان أو طقوس دينية وتنتهي بذبح ماعز كرمز للمأساة أو النهاية الحزينة.

ويبدو أننا مقدمون على مذبحة حقيقية للفلسفة، مذبحة للعقول تبغي إلى تحويلها من عقول إلى عجول بفعل فاعل يسير بخطى متسارعة نحو هدف خبيث ، نحن لن نتدخل فى النوايا ، لكن ربما دون قصد ، لكن معظم أهل الشر الذين دخلوا النار ، قالوا لم نكن نقصد كذا وكذا.

ليس ثم يأس أو إحباط من جانب كاتب هذا المقال ، حتى لا يتوهم بعض أصحاب العقول الجوفاء أننا أصابنا الوهن والكلل من الدفاع عن معشوقتنا التي أفنينا أعمارنا في حبها.

ولكن ضقنا ذرعا مما فعل بها من محاولات اغتيالها بدءا من وصفها أنها عديمة الفائدة وأن دراساتها تقود إلى التيه والضلال ، وأن كل من درسها أخرجته من وعيه وإدراكه إلى اللاوعي فصار معتزلا القوم منعزلا عنهم لا يخالطهم أفراحهم ولا يشاركهم أتراحهم.

لكن أما سأل هؤلاء لماذا حدث هذا الاعتزال ، نعم حينما حل الجهل وعم وكثر الرويبضة ولكل عصر رويبضته ، انزوى الفلاسفة وتنحوا جانبا ، لا زهدا في هذه الحياة كمسالك ومدارج المتصوفة ، ولكنهم اختفوا عن الأنظار عساهم من خلال تفكرهم يجدون حلولا ناجعة لمشكلات أوطانهم سواء المشكلات السياسية أو الاقتصادية أو التعليمية أو الثقافية، وأركز على الثقافية التي هي فى الأساس الركيزة الأولية لبناء الإنسان بما هو كذلك بغية تشكيل وعيه وبناء عقله ، فكما أن الطعام يبني الأجسام ، فإن الفكر ينمي العقول التي تدبر هذه الأجسام ، فهل علمتم أن جسدا يستقيم دون رأس.؟!

فقد عبر عن ذلك فيلسوفنا المسلم أبو نصر الفارابي في غير ذي موضع من مؤلفاته ولا سيما مؤلفاته السياسية كآراء أهل المدينة الفاضلة، عندما قسم المدن إلى الفاسقة والجاهلة والعالمة، لكن مع طغيان الفسق والجهل انمحى رسم المدن العالمة (الفاضلة)، أو كادت ، ومن ثم راح علماؤها بعيدا لعلهم يجدون ضآلتهم المنشودة فصاروا كالنبت بين الأشواك ، فما حيلة نبتة ، برعمة وسط كوم من أشواك الجهلاء والفساق والحمقى.! لكن حتما هذه النباتات ستنمو مجتمعة مع بعضها البعض جنبا إلى جنب لتقاوم هذه الأشواك ، فطريق التحرر من القيود ليس ممهدا بالورود وإنما سيكون مملوءا بعناقيد الأشواك.

وهذا ما يفعله الآن المدافعون عن الفلسفة لرفع الغبن والجور الذين وقع عليها حتى وإن كانوا قلة فحتما سيكثرون طالما أن هناك عقول تقف بالمرصاد في وجه هؤلاء الطغاة الذين أرادوا تقزيم العقل الإنساني الذي كرم الله به الإنسان فبالإضافة إلى التكريم بالزينات المادية فقد كرمه الله تعالى بالعقل الفعال المتقد المتحفز دائما.

ليس الفارابي وحده بل وجدنا ذلك فى تدبير المتوحد لفيلسوف الأندلس ابن باجه، فبعد أن ودع القوم في رسالة الوداع ، وتوحد مع ذاته لعله يصل إلى الحقيقة عن طريق العقل ، حقيقة الله ، حقيقة الإنسان ، حقيقة القيم الخلقية ، عاد إلى مجتمعه في رسالته الثالثة يتلو رسالة الوداع فعاد إلى واقعه محاربا ما رآه من فتن وخزعبلات وميثولوجيا ، ونقد ما رآه من أفاعيل البهاليل والمجاذيب الذين ألغوا عقولهم وتركوا الدنيا وتواكلوا، أليس للفلسفة دور هنا ، أحياء العقل وإعادة هيبته بعدما غيبوه ما يدعون أنهم متصوفة والتصوف الحقيقي منهم براء.

حدث ذلك مع ابن رشد الذي أحرقت مؤلفاته ونفي إلى أليسانه ، لكن النتيجة النهائية ، الغلبة والانتصار لفكره، فصار رائدا للاتجاه العقلاني واستمرت مؤلفاته تدرس إلى الآن في جامعات أوروبا.

إن ما تتعرض له الفلسفة في مصر الآن ليس بجديد عليها ، فقد تعرضت لهجمات شرسة منذ العصر الفرعوني من كهنة المعابد و سدنتها المستفيدين من تغييب العقول ، لأن العقول إذا حضرت ستنقد وتناقش وستعترض على الأوضاع السائدة، والأوضاع هي هي بعينها ليس ثمة تغيير اللهم إلا في تفاوت الفترات الزمانية نضرب على ذلك مثالا الدعوة إلى عقيدة التوحيد ووحدانية الإله كهنة المعابد يرفضون بشدة هذه الفكرة التي يقبلها العقل كما يقبل التعددية ، لكن هؤلاء السدنة يرفضونها لماذا ؟! للاسترزاق من اختلاف الآلهة مع بعضهم البعض ومن ثم راحوا يحاربون كل منتوج عقلي يناقش ذلك.

كذلك الأمر تعرضت الفلسفة لهزات زلزالية عنيفة كادت أن تعصف بها وبمنسوبيها وذلك في العصر الحديث على يدي بعض غلاة المدرسة السلفية، فراح هؤلاء يكفرون كل من يتعاطى الفلسفة ويدرسها والشاهد على ذلك عندما رفع محمد عبده والطهطاوي شعار التجديد، تجديد الخطاب الديني على أسس عقلانية ، فراحوا يكيلون الاتهامات لهذين المفكرين العبقريين وأنهما يريدان العبث بثوابت الدين، على الرغم من أن الدين حركي ومتجدد وسيال ومتدفق عبر الأزمنة ومواكب لكل جديد وحديث ، بل وبلغ الأمر مبلغه أن أغلقت صحفهم وصودرت أعدادها بحجة أن ما يكتبونه مناهض للدين ويسعى لتخريب العقول ، فبدلا من أن نناقش هؤلاء نصادر على آرائهم التنويرية ونتهمهم بالكفر والإلحاد لماذا ؟!، لأنهم أرادوا نقل ما تعلموه من أفكار تنويرية أسس الغرب على أثرها مدنيتهم الحديثة ، لكن وعلى الرغم من كل هذه الحملات الشعواء والحرب الضروس انتصرت رسالة التوحيد لمحمد عبده ، وانتصرت الأعمال الكاملة ، والمرشد الأمين للطهطاوي وتمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية لمصطفى عبد الرازق والمجددون في إلاسلام لأمين الخولي وغيرهم كثر ، وانتصرت الفلسفة في العصر الحديث كما ستنتصر في مصرنا المعاصرة فما هي إلا كبوة ولكل جواد كبوة، لكن ما يحدث الآن من تهميش وتقزيم للفلسفة لهو أمر مثير للشفقة على صناع هذا القرار، فالتاريخ لن يرحم كل من شارك في هذه المقتلة هذه واحدة أما الثانية فتهميشها تهميش للعقل عن أداء دوره المنوط به من المشاركة في الرأي فالفيلسوف والمفكر لا يمكن أن يكون بمنأى عن قضايا مجتمعه.

إن ما يحدث للفلسفة في مصر الآن لهو كارثة بمعنى الكلمة، فكيف لبلد مثل مصر تسعى إلى العالمية من خلال الحداثة والمعاصرة ومواكبة كل جديد أن تهمش الفلسفة بحجة تخفيف الأعباء عن كواهل الناس ، تخففوا عن الناس عن طريق تدمير عقول عوائلهم ، محو شخصياتهم ، هوياتهم الفكرية.

إنها جريمة يندى لها جبين كل مفكر حر، ولا عزاء للمنسوبين للفلسفة الذين يتفرجون ، يصمتون ، لا يتكلمون ، كل ما يفعلونه ، يشجبون وعلى استحياء يدينون، أسألهم على ماذا تخافون وتخشون على مناصبكم ستتركونها إن لم يكن بإرادتكم فستتركونها عنوة وجبرا.

رحم الله أساتذتنا الذين لو كانوا يحيون بيننا لما صمتوا ولما وهنوا ولما ضعفوا بل كانوا سيتصدون لهذه الهجمات الشرسة، فلله دركم أشياخنا زكي نجيب محمود ، العقاد ، نجيب محفوظ ، مصطفى محمود ، مصطفى عبد الرازق ، عبد الحليم محمود ، محمد أبو سعدة ، حسن حنفي ، عاطف العراقي ، فوقية حسين.

ناموا وارقدوا في سلام فقد علمتم تلاميذ سيتصدون بكل ما أوتوا من قوة الحجة والبرهان وبما آفاء الله عليهم من الحكمة لمواجهة هذه التحديات، لا يحركهم غرض ولا مأرب اللهم إلا حبهم لمعشوقتهم الأم الرءؤم التي احتضنتهم وعلمتهم كيف يفكرون ، كيف يكتبون.

(قل تربصوا إنا متربصون)

لن تكون الفلسفة كتراجيديا الماعز المذبوح ولن تكون وليمة للذئاب.
---------------------------------
بقلم: 
د. عادل القليعي *
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان
(من صحيفة المشهد الأسبوعية)


مقالات اخرى للكاتب

ولا يزال وأد  الإنسانية مستمرا |