يظنّ كثيرٌ من النَّاس أنَّ العاهة الجَسديّة هي أكبر ما يصيب الإنسان من محن وابتلاء، ولكنَّ الحقيقةَ أنَّ مرض العاهة الإنسانيَّة هو أخطر ما يصيب البَشر من محنٍ وابتلاءاتٍ؛ فالعاهات الأولى لها علاجٌ في حالاتٍ كثيرة، كما أنَّ المريض بها يمكِّنُهُ الله تعالى منَ التَّعايُش والتَّكيُّف، ويعوِّضه خيرًا منه في الحواسِّ الأخرى حتى وجدنا كثيرا من ذوي العاهات الجسديَّة يتفوَّقون تفوُّقًا خارقًا؛ كما وجدنا لدى بشَّار بن برد، وأبي العلاء المعرّيّ، والإمام التّرمذيّ صاحب الصَّحيح، وصولا إلى طه حسين الضَّرير، والبردوني الشاعر الكبير، و مصطفى صادق الرَّافعي الأصمّ، بل نجدُ الظَّاهرة أكثر انتشارًا بين أعظم فنَّاني العالم وعلمائِه؛ فبيتهوفن فاقد السَّمع، وعمار الشريعي فاقد البصر، وستيفن هوكينج العاجز عن الحركةِ الذي أحدث انقلابًا حقيقِيًّا في علم الفيزياء، وهيلين كيلر التي فقدت السَّمع والبصَر فأنصتَ لها العالم أكثر من نصف قرن، وظلّ هذا الأمر شائعًا في كلِّ العصور والبيئات حتَّى ألِّفت فيه الكتب والموسوعات..!
من وحي مذكرات جارة طيبة دوريس ليسنج:
وفي روايتها البديعة "مذكرات جارة طيبة" تكتب الروائية الإنجليزية "دوريس ليسنج" الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب 2007ممذكرات الصحفية النشيطة" جين سومرز" التي نجحت نجاحًا مبهرًا في عالم الصحافة، جعلها تستعيض به عن العالم حولها، ولا تشعر بما حاق بها من موت أمِّها وزوجها بعد تجارب مرضيَّة مضنية، ورحلات سفر لتصوير الحرب العالميَّة، وتضحيَّات كبيرة بذلها زوجها الرَّاحل في سبيل سعادتها ونجاحها المتفرد وسبقها لكل زملائها، وشعورها بالسَّبق والتّفرّد...إلخ.
رائحة العاهة الإنسانيَّة، ورائحة العاهة الجسديَّة:
تقابل الصحفية الناجحة "جين سومرز" امرأة عجوزا في التّسعين تسمّى "مودي" في صيدلية، وهي عاجزة عن دفع المبلغ المستحق للأدوية؛ فتكمل المبلغ لها، وتساعدها للوصول إلى بيتها، ولكنها حين دخلت البيت وجدته قذرًا قذارة عشرين عامًا، والعجوز ذات رائحة كريهةٍ؛ لأنَّها لم تستحم منذ فترة طويلة، بل إنها قد تبول على نفسها، فتغير الملابس الجافة التي سبق أن بالت فيها، بملابسها المبتلَّة حديثًا؛ مما أخلق ملابسها، فصارت أسمالًا مهترئة، وهكذا تستمرّ جين في مساعدة "مودي"، وتغيير ملابسها، وإدمان ذلك بشكل يوميّ، حتى إنَّها حين تكلَّف بمهمَّة صحفيَّة للصَّحيفة التي تعمل بها لمدَّة خمسة أيام تعود بعد يومين لشُعورهابالمسئوليَّة الكاملة تجاه" مودي" العجوز التي تقابل كلّ تفَانٍ من جين بالتَّوجُّس، والرَّفض، والتَّوبيخ أحيانًا، واتّهامها بأنَّها قد تكون مندسَّة تحاول التَّجسُّس عليها، ولكن "جين" تواجه ذلك بمزيد من التفاني في خدمتها، فتغسل المتسخ، وتصلح المكسور، وتغير القديم، وتستمع لأحاديث "مودي" الإنسانيَّة فتقارن بينه وبين أحداث حياتها هي؛ لتكتشف في النِّهاية، أن الرائحة الكريهة إنَّما تنبعث من أولئك الذين عطبت إنسانيتهم ونفقت وتعفنت وخرجت روائحها الكريهة لتزكم الأنوف، في حين أن الذين قد تبدو روائحهم الظاهريَّة كريهة أكثر عِطرًا ونقاءً وطيبًا منها، وأنَّها إن أعطت "مودي" العجوز كلّ حياتها فلن تفيها حقَّها لأنَّها أهدتها إنسانيتَّها...!
بين ضحايا العاهات الجسدية ومجرمي العاهات الإنسانيَّة:
فنحن في مواجهة هؤلاء الذين امتحنهم اللهم بإحدى العاهات يجب أن نتذكر أولئك العاجزين إنسانيًّا من الأفاقين معدومي الإنسانيَّة والمدَّعين، وسارقي أحلام البشَر، والطغاة، والمتجبّرين، والمتآمرين، وشاهدي الزُّور، والمنافقين، والحاقدين، والحاسدين لندرك أننا أمام مرضى أكثر ابتلاء يجب أن نقف إلى جوار عاهاتهم بالتعجب والإنكار والمقاومة ومحاولة إيجاد حلول ممكنة للتخفيف من أعراض أمراضهم المعدية، التي تشكل خطرا على الإنسانية كلها...!
العاجزون جسديا يحبون الآخرين ويحاولون مساعدتهم واختراع ما يفيد الأصحَّاء جسَديًّا، في حين أن ذوي العاهات الإنسانيَّة يكرهون البشر جميعًا، ويحاولون استلاب آمالهم، والقفز على طموحاتهم، وقهرهم، والتآمر عليهم، ومحاولة ابتزازهم، والمتاجرة بهم وكسب كلِّ ما يمكنهم كسبهُ من ورائهم، حتى ولو أدَّى الأمر إلى قتلهم والتربح من دمائهم، أو المناداة بحقوقهم على سبيل المتاجرة وتصدُّر الشَّاشاتِ، والواجهاتِ، وتضخيم ثرواتهم المشبوهة، وذواتهم المريضة..!
بعيدا عن لغة الخطب والوعظ، وكلمات الجمعيَّات والنَّدوات والمتاجرة بحقوق ذوي المواهبِ الخاصَّةِ والمنح الإلهيَّة، والمتحديين من ذوي الهمم يجب أن يستيقظ ضمير الإنسانية للوقوف في مواجهة ذوي العاهات المشوهة من الإعاقات الإنسانية الذين يملؤون الشاشات والصُّور والمنصَّات لابتزازنا عاطفيًّا وعقليًّا وعلميًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا لصالح أمراضهم المزمنة من الأنانية المفرطة، والنَّرجسيَّة المقيتة، ورغباتهم الصّارخة في القضاء على الأخضر واليابس..!
ذوو البصيرة وقمة الفنون:
لفتَ نظري أنّ ذوي البصيرة تمكَّنوا من فنون القراءات القرآنية ووصلوا للقمَّة، التي لم يتجاوزها المبصرون، ولنا في الشَّيخ رفعت المثل والقُدوة، وفي فنون الثَّقافة لم نجد من تجاوز العميد طه حُسين، وفي الشعر مثَّل أبو العلاء ثلاثة أرباع الشعر العربيّ، وفي الغناء والتلحين وجدنا عمار الشريعيّ العبقرِيّ وسيد مكَّاوي الذي جمع بين براعة التلحين والغناء، ولكن العجيب أن نجد المخرجة المسرحيَّة مريم البغلي التي تخرج عروضا مسرحية مونودرامية على المسارح الخليجيَّة، وتحظى بإعجاب النظّارة...إلخ!
إنّ الصَّحيح إنسانِيَّا يمكنه فعل المستحيل وتخليد ذكره من خلال قدرته على العطاء الإنساني التي لا تحدها حدود، ولا تمنعها قيود، والعاجز إنسانيًّا سيظل من ذوي العاهات المستحيلة، والعجز المطبق..!
-----------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش.