كثر افتتان أكثر أهل زماننا من المسلمين بالغرب، فمن مفتون حملته الفتنة على ترك الإسلام بجملته، ومن مفتون آخر حملته فتنته على الأخذ ببعض الإسلام وترك بعض، ومن مفتون ثالث لم يبدل ولم يغير لكنه لا يزال يلتمس البراهين على صحة دين الله من نظرية فرنسية أو من فلسفة ألمانية!
فأما الصنفان الأولان فلست أتحدث فى فتنتهما بشىء، ولست أتوجه إليهما بالقول، لكنى فى هذه المقالة أتحدث إلى أهل الطائفة الثالثة ممن فتنتهم حضارة الغرب فتنة شديدة، وهؤلاء منهم الأزاهرة العلماء والخطباء، ومنهم الكُتَّاب الإسلاميون، ومنهم عوام المسلمين، وآفة هؤلاء أنهم حين رأوا تقدم الغرب فى العلوم، وإتيانهم بما أعجز الأولين فقد ظنوا أنه لا يكون دينهم صحيحًا إلا إذا وافق ما قال به الخواجة فى نظرياته وآرائه وفلسفاته وأهوائه، فتراهم أسعد الناس وأشدهم زهوًا وتيهًا إذا وجدوا توافقًا أو توهموا شيئًا من التوافق بين قول الخواجة وقول الله أو قول رسوله! فذلك يعدونه من الحجج المبينة والبراهين الواضحة التى تشهد لديننا بأنه الحق المبين!
ولشدة حرصهم على إثبات صحة الإسلام فإنهم إن لم يجدوا صريح الوحيين موافقًا صريح قول الخواجة اجتهدوا هم أن يوفِّقوا ويلائموا بين الوحى وبين كلام الخواجة، فإن استطاعوا التوفيق بين القولين، وإلا أفرغوا جهدهم ووسعهم فى الاحتيال للتوفيق بينهما بالعسف والغصب واستكراه التفسيرات والتماس الشاذ من الأقوال والتأويلات، فإن أعياهم التوفيق بينهما باللين أو بالإكراه ذهبوا يمتحلون الأعذار للوحى كأنما مسهم الخجل من أن وحى الله خالف نظرية الخواجة! فمقطع الحق من الباطل عند تلك الطائفة هو قدر موافقة الوحى لقول (الخواجة)! وغاية فخرهم أن يقولوا: "سبقهم إليها الإسلام بألف وأربعمائة عام"! وهل كان الوحى الإلهى فى مضمار سبق والخواجة؟! وهل قصب السبق عندكم أن يسبق وحيكم نظرية الخواجة أو يحاذيها؟! وهل فلسفات الخواجة هذه هى المقياس الأمثل التى ينبغى أن يبلغها ديننا لنعرف إن كان تامًّا أو ناقصًا؟! ولماذا ترون مخالفة وَحْيِكم لِهَوَى الخواجة ورأيه كأنما هو منقصة فى دينكم؟!
يا إخواننا، اربعوا على أنفسكم، فإنه ليس كل ما تفلسف به الخواجة يكون علمًا مقطوعًا بصحته، بل إن أولئك الخواجات كثيرًا ما يلحنون بالقول فيما يقولون أو يكتبون فتحسبه علمًا محضًا، وما هو إلا الهوى المحض، أو هو رأى، أو نظرية لم يثبت صدقها، أو أطروحة أُلقيت ومضى صاحبها، أو رجم بالغيب والظن، أو علم عرف بعضه وغاب عنه أكثره، أو جزء اقتطع من كُلِّه ثم قيس عليه وعُمِّمَت النتيجة، ولتنظر يا أخى كم مرة قرأت أن أحدث أبحاث علماء جامعة كذا تثبت كذا وكذا ثم بعد بضع سنين يخرج علماء غيرهم فيقولون بنقيض ما أثبته الأولون! ولا يزالون فى ذلك التردد والتشكك المرة بعد المرة، فكيف تُعَلِّق إيمانك وإيمان من يستمع إليك بمشكوكات وظنِّيَّات؟! وكيف تعتذر إلى متابعيك إذا سمعوك تثبت صحة الوحى بشهادة الخواجة، ثم بعد حين سمعوا الخواجة ينكص عما قاله؟! بل كيف تعتذر إلى الله أنك التمست الحجة على قوله الأعلى من قول بشر جهله أكثر من علمه، وشكه أكبر من يقينه؟!
إن آفة القوم أتتهم من تغافلهم عن قول الله تعالى فى سورة المائدة: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مُصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه"، وتفسير هذه الآية الكريمة: (أن الله أنزل القرآن الكريم على رسوله محمد بن عبدالله وجعله "مهيمنًا" أى شاهدًا ومؤتمنًا على الكُتُب السماوية السابقة عليه، فما وافقه منها فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود) كما أخبر به طائفة من المفسرين منهم الجلالين، والقرطبى، والسعدى، فما بين أيدينا من القرآن يخبرنا أنه شاهد ومؤتمن على ما سبقه من كتب سماوية، فكيف تعمدون يا أهل الإسلام إلى الآية فتقلبوها وتجعلوا أهواء وآراء وفلسفات الخواجة مهيمنة على الوحى ومؤتمنة وشاهدة عليه!
يا إخواننا، ويا علماءنا، إن دينكم تام كامل لا ينتظر شهادة صحته من كلام شرقى ولا من هوى غربى، فاعتزوا به فإنه عزيز من عزيز.
-------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]