هذا الصوت المتمرِّد الذي لا يقبل الإيقاف يكون دائمًا بداخلي في تمام الساعة الثانية عشرة ليلًا. بسبب إزعاجه المتكرر وصوته المرتفع، لا أستطيع النوم، ولم أتمكن يومًا من إسكاته ولو قليلًا. أشعر دائمًا بأنه يكمل القطعة المفقودة داخلي؛ فتأملاته في الأشخاص والأحداث وتحليل المواقف ليس لها مثيل. أحيانًا أدرك أنه على صواب، وتارة أخرى يظهر لي غير راضٍ عن الواقع الذي يعيشه الجميع ويتعاملون معه. لم أعد أعلم أين هو الطريق الصحيح؛ هل في هذا الصوت الصاخب والعميق، أم في طريقة عيش الناس الذين يعتقدون دائمًا أنهم على صواب، وأن هذه الحياة يجب أن تُعاش كما وجدنا عليها آباءنا؟ لابد من وجود مخدر قادر على إطفاء كل هذه الأنوار وحل ألغاز هذا الصوت الذي يستحوذ على وقت نومي بالكامل.
ولكني لا أستطيع التوقف إلا عن طريق الكتابة. نعم، هو من يكتب الآن وليس أنا؛ فهو دائمًا ما يظهر أمام الورقة والقلم، وفي اعتقادي، هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعلني قادرًا على مواصلة الحياة. فعند مفارقة نفسي لجسدي، ستبقى هذه الكلمات، ولا شك أن شخصًا آخر سيقرأها. أقول لك أيها الإنسان الذي تقرأ كلماتي: إنها ليست كلماتي، وإنما صوتي الداخلي الذي كان سيقتلني حتمًا، لذا أخرجته على الورق ليعبر عن كل هذه الفوضى العارمة في روحي. اعذرني إن وافتك المنية بعد قراءتك لهذه الكلمات؛ فلتأخذ حقك منه هو، فهذا ليس ذنبي.
ويبدأ هذا الصوت بالقول إنه لم يعد يحتمل تفاهة هذا الجيل العاجز عن فعل أبسط الأمور، والذي يكتفي فقط بالنقر على شاشات صماء خالية من أي نوع من المشاعر. فقد أصبح التجاهل وعدم الاهتمام الصفة الرئيسية بين أفراد هذا الجيل، والأغرب أن أغلبهم يصابون بالوحدة ويسمونها مواقع التواصل الاجتماعي؛ إنها مجرد مسميات فارغة، خالية من أي معنى. لقد تمكن الغضب من صوتي، حتى إنه قرر عدم بناء أي علاقات عن بُعد لأنها علاقات غير مرضية ولا تغني ولا تسمن من جوع.
تعب هذا القلم كثيرًا من حمل هذه المشاعر الفضفاضة التي لا أدري أين أفرغها، ومن ذا الذي يملك القدرة على تحمل كل هذه الفوضى العارمة في داخلي؟ لذلك، كان لابد لي من مخرج وسط كل هذه الأحداث المتصارعة في عقلي. لقد اشتقت حقًا لأصدقائي الذين وعدتهم باللقاء مرة أخرى. يا أعزائي، لم أستطع تخطي فراقكم، ولا أستطيع التعبير عن مدى أسفي. كانت الورقة والقلم خير صديق لي من بعدكم. صحيح أنها لم تعوض مكانكم أبدًا، لكنها تصبرني حتى عودتكم، يا أحبائي. فإني أنتظركم بفارغ الشوق حتى نعيد أيامنا الخوالي، ونقضي سهراتنا المعتادة، نضحك بصوتٍ خالٍ من الهموم، ونحزن بصدق كما لو فقدنا فقيدًا عزيزًا. ما زلت أتذكر تلك الأوقات وكأنها كانت بالأمس.
عودوا يا أصدقائي، لأنكم وإن ابتعدتم عني، فلا يزال مكانكم في قلبي كما هو. ويروي صوتي الداخلي أنه أصبح منفصلًا عن تلك الحماسة الموجودة في البدايات؛ فقد كان يميل إلى عيش حياة ممتعة في اللحظة، لكنه أدرك مدى خطأ تفكيره بعدما تعرض للعديد من الطعنات التي لم تترك في القلب مكانًا لأكثر من ذلك. كثرة اهتمامه بالآخرين جعلت منه أضحوكة بين الناس، وكان لهذا أثر كبير في نفسه، حيث تحول إلى النقيض تمامًا، وأصبح لا مباليًا بأحد، غير مكترث بآراء الناس ونظرتهم إليه.
الآن، يشعر براحة أكبر وهو وحيد، منفرد بذاته التي تعرضت للكثير من الجروح. لكنه استطاع مداواة نفسه سريعًا من خلال العزلة، التي جعلته ينضج في تعامله مع المواقف، وبدأ يعود إلى حياته شيئًا فشيئًا، حتى لا يرجع إلى الانتكاسة مرة أخرى. هكذا يحدثني صوتي الداخلي، وهذا ما يعبر عن مدى حبه واشتياقه لأصدقائه الحقيقيين، وليس أولئك المزيفين الفارغين من أي شعور. إنه يحدثني وأحدثه عن هذه الأمور، ويتضح لي أنه كان على حق في زمنٍ لا يعرف معنى الحق.
------------------------
بقلم: فادي سمير