هناك تعبير مهم في العلاقات الدولية، وفي السياسة بشكل عام، يشير إلى نمط من الحوادث أو الشخصيات القادرة على تغيير قواعد اللعبة (game changer)، على المستويين الداخلي والخارجي. قد يُنظر إلى الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، كواحد من تلك الشخصيات استناداً إلى تحليل سلوكه وسياساته على الساحة الدولية، وإلى حد ما على الساحة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، في فترة ولايته الأولى (2016-2020).
لقد حقق ترامب فوزاً ساحقاً على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة 2016، استناداً إلى تحالف انتخابي واسع ضمَّ معارضين للمؤسسة الأمريكية الحاكمة، وهو تعبير يُشير عادة إلى البيروقراطية السياسية الأمريكية المتمركز في واشنطن، العاصمة الاتحادية للولايات المتحدة. فعلى الرغم من انتماء ترامب إلى النخبة المهيمنة على السياسة الأمريكية منذ استقلال الولايات المتحدة التي يهيمن عليها البيض البروتستانت المنحدرين من أصول أوروبية غربية، إلا أن فوزه الانتخابي تحقق من خلال تبنيه خطابا يسعى إلى تغيير ما استقرت عليه هذه النخبة، الموزعة بين الجمهوريين والديمقراطيين، في ممارسة الحكم، بعد حركة الحقوق المدنية في الستينات، وتبني هذه النخبة خطاباً أملته ضرورات تتعلق بتصوراتها لدور الولايات المتحدة ورسالتها في العالم، وأملته ضرورات فرضتها حقيقة أنها تجسد نموذجاً لمجتمع للمهاجرين متعدد الثقافات ومنفتحا، مؤسسا على حقوق دستورية تمنح مواطني الولايات المتحدة فرصا متساوية وعلى الديمقراطية.
ويُعبر شعار "أمريكا أولاً"، وهو الشعار الرئيسي والمستمر لحملات ترامب الانتخابية، وتركيزه على مشكلة الهجرة غير الشرعية وانتقاده لأسلوب تعامل الإدارات السابقة معها، ومحاولته التخفيف من العبء الذي تتحمله الولايات المتحدة بسبب التزاماتها الدولية، وهي الشعارات التي جذبت قطاعات كبيرة من الناخبين غير الملتزمين حزبياً، علاوة على دعم القواعد الانتخابية للحزب الجمهوري المعروفة بميولها المحافظة والمعادية لليبرالية التي تراها تهديدا لقيم المجتمع الأمريكي بميوله الدينية المعادية لقضايا مثل الإجهاض وحقوق المثليين، وهي القضايا التي تلقى دعما من الليبراليين في الحزب الديمقراطي، ويفسر تبنيه هذه الشعارات فوزه الساحق في انتخابات الرئاسة 2016 وفي 2024، رغم فضائحه الأخلاقية. ولم تكن هزيمته الانتخابية في 2020، إلا بسبب فقدانه هذه الأصوات المتأرجحة التي أظهرت استياء من إدارته لجائحة كوفيد-19، وأيضا بسبب تفكك تحالفه الانتخابي الذي ضمَّ تيارات سياسية وفكرية بينها تناقضات يصعب حلها. واستند أيضا نجاحه الانتخابات الأخيرة على تناقضات تضمنتها وعوده الانتخابية فيما يتعلق بالشرق الأوسط، مكنته من كسب أصوات الناخبين المنحدرين من أصول عربية وإسلامية، عوضت خسارته لتراجع تأييد الناخبين اليهود له، حسبما أفادت تحليلات مبكرة للتصويت.
بين المثالية وضرورات الواقع
إن فهم ديناميكيات البيئة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية، وما أفرزته من نتائج في هذه الانتخابات، أمر ضروري للوقوف على محددات السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط، وفهم ما تخفيه الشعارات من مضامين وكيف ستتعامل مع تضارب الأهداف الأمريكية في المنطقة الذي يعد سمة ملازمة للسياسات الأمريكية، وسبب رئيس لتناقض هذه السياسات وغموضها، ويلاحظ أن الساسة الأمريكيين حرصوا على الالتزام بهذا الغموض، وكثيرا ما يصفونه بأنه "غموض بناء". وهذا الأمر ينتج أساساً من تصور مثالي يحكم رؤية الساسة الأمريكيين للعالم، والتي تعاني اضطراباً نتيجة للتذبذب بين الرؤية المثالية وبين ما تمليه عليهم الواقعية السياسية من مواقف.
يرى هنري كيسنجر في كتابه الصادر في عام 2014 بعنوان "النظام العالمي: أفكار حول طبيعة الأمم ومسار التاريخ"، أن الرؤية الأمريكية للنظام العالمي المستمدة من تجربة الولايات المتحدة، لم تقم على تبني نظام توازن القوى الأوروبي الذي تأسس بصلح وستفاليا، وإنما قامت على "تحقيق السلام من خلال نشر المبادئ الديمقراطية" وهي ملاحظة على قدر كبير من الأهمية لفهم التصور الأمريكي لإنهاء الحرب وتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط وما الذي يعنيه ذلك لنا. وهل يمكن لهذه الرؤية التي ينتقدها كيسنجر لأنها مفرطة في المثالية، أن تتحقق بدون تدخل أمريكي مستمر في المنطقة وفي أدق الشؤون الداخلية لدولها؟
ويتمثل أحد الانشغالات الأساسية لترامب في ولايته الأولى، والتي من المحتمل أن تستمر في ولايته القادمة، فيما يخص الشرق الأوسط، والتي تعكس هذه الرؤية المثالية إلى حد ما، هي سعيه لحل التعارض القائم بين أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط التي تسعى دوماً إلى تحقيق أهداف متعارضة، وحل هذا التناقض شاغل رئيسي للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وربما كان سببا أساسيا لكثير من الأزمات والصراعات التي شهدتها المنطقة، علاوة على الأزمات البنائية المرتبطة بنشوء النظام الدولي للإقليم، بعد الحرب العالمية الأولى وتفكك الإمبراطورية العثمانية، والاستعمار، وهو النظام الذي ورثته الولايات المتحدة ويتعين عليها التعامل معه. على الرغم من خروج ترامب على كثير من المبادئ التي حكمت سياسة الولايات المتحدة خلال فترة رئاسته الأولى، وعلى الرغم من النجاح الذي حققته بعض المبادرات التي أقدم عليها، إلا أنها لم تتمكن من حل هذا التعارض على الأرجح، وأضيفت إليها تناقضات جديدة.
سيتوقف الكثير من الترتيبات المستقبلية في المنطقة على قدرة إدارة ترامب التي طرحت الكثير من المشروعات والتصورات لحل القضية الفلسطينية، أو بالأحرى لتصفيتها، والسعي لنقل جزء كبير من أعباء الحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة، على قدرته على حل التناقضات والتعامل مع التغيرات التي جرت في السنوات الأربع الماضية، على المستوى العالمي والإقليمي، وسيعتمد أيضاً على طريقة تعامله مع مناورات الزعماء السياسيين والقوى الفاعلة في المنطقة. يأتي في مقدمة هذه التناقضات التناقض بين الرؤية المثالية لترامب وللجمهوريين وبين الواقع وحقائقه، وفي ظل هذا التناقض يختفي كثير من المخاطر، التي تخفيها أيضاً ردود الفعل على سياساته وتصوراته للمنطقة. فعلى سبيل المثال، قد تخفي ردود الفعل الظاهرية على سياساته فيما يتعلق بالقدس، وقراره نقل السفارة الأمريكية إليها، في خطوة اعتبرت تغييرا جذريا في الثوابت الحاكمة للسياسة الأمريكية، وكذلك على مساعيه لتصفية القضية الفلسطينية من خلال طرح صفقات لتهجير الفلسطينيين، فيما عُرف إعلامياً بـ "صفقة القرن"، وسعيه لتطبيع علاقات إسرائيل مع عدد أكبر من الدول العربية، المواقف الحقيقية للنخب وللشعوب العربية من مسألة تعزيز إسرائيل كقوة إقليمية، تتمتع بقدرة على التحرك العسكري بحرية، وسعيها لتغيير الوضع القائم بفرض حقائق جديدة على الأرض، مثلما تفعل من خلال الاستيطان في الضفة الغربية، أو في حربها في غزة. ويبقى السؤال، هل يمكن لترامب أن يحصل بوسائل دبلوماسية واقتصادية على مكاسب لإسرائيل فشلت في الحصول عليها، إلى الآن، بوسائل عسكرية؟
كيف سيتعامل ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأركان حكومته، الذين يصرون على مواصلة الحرب ضد حماس وحزب الله، وسعيهم لتحقيق "الانتصار المطلق"، وهل يمكن له أن يقدم دعما لإسرائيل يفوق ما قدمته إدارة سلفه الديمقراطي جو بايدن من أجل حماية أمن إسرائيل، وما يفرضه ذلك من أعباء على الولايات المتحدة؟ وكيف سيقنع الناخبين الأمريكيين، والرأي العام العالمي، بفشله في تحقيق وعوده الانتخابية بأنه الوحيد القادر على وقف الحرب في الشرق الأوسط، وما تأثير ذلك على مصداقيته؟ كيف يمكن له تحقيق هذا الهدف مع دخول فصائل للمقاومة متمركزة في العراق إلى المواجهة، تزامناً مع هجمات صاروخية وبمسيرات، شنتها حماس وحزب الله، على إسرائيل فور الإعلان عن فوزه؟ هل سيتعاون مع روسيا لتغيير المعادلة في المنطقة، وما هي التنازلات التي سيقدمها لها في أوكرانيا وفي أوروبا مقابل ذلك؟ وهل ستضحي روسيا، في المقابل بحليف إقليمي مهم مثل إيران، إذا تعرضت لضربة أمريكية وإسرائيلية مشتركة؟ وهل مثل هذه الضربة ستوقف الحرب أم أنها ستؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية أوسع قد تطول أطرافا أخرى حليفة لواشنطن، وهو ما سعت إدارة بايدن إلى تجنبه منذ اندلاع الحرب في غزة، أم سيتوجه مباشرة إلى إيران عدوه اللدود، ويبرم صفقة معها، وما هي التنازلات التي يمكن تقديمها لطهران، وهل سترضي هذه التنازلات إسرائيل وحلفائه في الخليج؟
لقد أظهر ترامب خلال فترة ولايته الأولى تسامحاً مع انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، ومتعارضة مع القيم الأمريكية، من قبل نظم حليفة وكان هذا التسامح سببا لانتقادات وجهتها له منظمات أمريكية ودولية تدعم حقوق الإنسان بل ومن أعضاء كونجرس بارزين، من بينهم أعضاء في حزبه الجمهوري. وكيف سيدعم هذه النظم في مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ترتبت على سياساتهم والتي تؤثر سلباً على فرص الاستقرار السياسي الداخلي في المنطقة وتعزز من قوة تيارات المعارضة، لا سيما التيارات الإسلامية والتي تشير تقارير بحثية إلى تعزز قوتها نتيجة لهذه الأزمات ونتيجة للحرب الدائرة في غزة؟ وتضيف هذه التطورات تحديات جديدة على إدارة ترامب في فترة ولايته الثانية، ومعظمها خارج عن سيطرته ويتطلب تعاوناً من حكومات المنطقة، وتضيف هذه التطورات أسباباً جديدة للعنف وربما لحروب أهلية، قد تكون لها تداعيات إقليمية وربما دولية. وهذه التساؤلات، تتضمن بذاتها إجابات، إذ أنها تكشف عن حجم التحديات التي تواجه ترامب وإدارته وطبيعتها، وهي تحديات قد تتطلب أسلوبا سياسيا مغاير لأسلوب الصفقة الذي يتضمن مجازفات غير محسوبة ومغامرات ميزت سياسات ترامب في فترة ولايته الأولى.
الانعزالية والنزعة الإمبراطورية
أحد الإشكاليات الأساسية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، بشكل عام، تتمثل في التناقض بين الطموح الإمبراطوري، خصوصا لدى الزعماء الجمهوريين، وبين القدرات والأدوات اللازمة لتحقيق هذا الطموح. وأحد النقاط الأساسية في سياسة ترامب الخارجية هي إعادة توزيع أعباء الحفاظ على أمن الحلفاء وزيادة نصيب ما يتحملونه من أجل الحفاظ على الأمن، وينطبق هذا النهج على الحلفاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي وعلى الحلفاء في آسيا، لا سيما اليابان وكوريا الجنوبية، وينطبق أيضاً على الحلفاء في دول الخليج العربية الغنية، التي قال إن حكامها لا يدفعون لواشنطن ما يكفي، مقابل الحفاظ على أمنهم واستقرار نظمهم الحاكمة، واستطاع بالفعل أن ينتزع منهم تعهدات بزيادة التزاماتهم المالية. إن هذا الموقف يخفي حقيقة أن العائدات المالية للنفط،"البترودولار"، تشكل الجزء الأكبر من الاستثمارات في سندات الخزانة الأمريكية، وهذه الاستثمارات مهمة للاقتصاد الأمريكي باعتبار أن الولايات المتحدة هي أكبر دولة مدينة في العالم. هذه الودائع الخليجية هي أحد القضايا المسكوت عنها في العلاقات الأمريكية بدول المنطقة.
وقد يُفسر حرص الولايات المتحدة على الحفاظ على ودائع دول النفط الخليجية في سندات الخزانة الأمريكية جانباً كبيراً من السياسات الأمريكية في المنطقة ودعمها لإسرائيل ووجودها، ويفسر حرصها على استمرار الصراع وإدارته لا حله، بل سعيها إلى تشجيع مصادر أخرى، خارجية أوداخلية، لتهديد تلك الدول، لكنهذا الوضع يكشف أيضاً عن قلق أمريكي من أي بادرة تشير إلى لجوء هذه الدول إلى مصادر أخرى لتأمين مصالحها، وهو الاحتمال تبينت جديته مع تحول حلفاء خليجيين كبار مثل الإمارات والسعودية للصين ولروسيا، كوسيلة للضغط على واشنطن لتعديل سياساتها في فترة توترت العلاقات مع إدارة بايدن.
إدارة هذا الوضع المعقد سبب رئيسي لحرص على أن تكون أكبر مورد للسلاح وللخدمات الأمنية لدول المنطقة والدخول مع حكوماتها في شراكات اقتصادية وأمنية وسياسية، وهو سبب رئيس لاهتمامها أيضا بتطبيع العلاقات بين هذه الدول وبين إسرائيل، لأنها تحل بذلك واحدا من وجوه التضارب الأساسية بين مصالحها في المنطقةـ وتضمن لها تحقيق حلمها التاريخي بتشكيل حلف دفاعي موالي لواشنطن والغرب في المنطقة، لمواجهة خصومها. ولم تتغير هذه المعادلة بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو والاتحاد السوفيتي، إذ ظهرت مصادر أخرى للتهديد من داخل المنطقة على النحو الذي أظهره الغزو العراقي للكويت في صيف عام 1990، وعلى النحو الذي تشكله التهديدات الداخلية الناجمة عن التناقضات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمعات العربية، وغيرها من تهديدات فعلية أو متصورة.
غير أن هذا التصور الشامل يتعارض بشكل واضح مع منطق الإبقاء على الصراع وإدارته، الذي تمليه اعتبارات الواقعية السياسية، ذلك ان تعزيز قوة أي شريك إقليمي، حتى لو كانت إسرائيل هي ذلك الشريك، وتمكينه من لعب دور القائد الإقليمي قد يعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر، على المدى المتوسط أو البعيد، لا سيما في حالة التعارض في السياسات والأهداف، ومن المؤكد، أن وضعا كهذا لن يساعد الولايات المتحدة على الانتقال من فرض هيمنة غير مستقرة على المنطقة إلى فرض هيمنة مستقرة، بل من المرجح أن يهدد هذه الهيمنة أصلاً، ويزيد من تعدد مراكز القوى العالمية التي يتعين على واشنطن التعامل معها، ويفتح الباب لتحالفات إقليمية أو دولية معادية للمصالح الأمريكية قد تنشأ في المنطقة. والإشكالية الأساسية هنا تتمثل بالأساس في قدرة الولايات المتحدة على حل التناقض داخلها بين الطموح الإمبراطوري وممارسة النفوذ على الساحة العالمية، وما يتطلبه ذلك من أعباء تتحملها وبين الانسحاب من الشؤون العالمية والتركيز على مشكلاتها الداخلية وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر فقدان نفوذها العالمي مع بروز قوى أخرى تطمح لشغل الفراغ الذي قد ينجم عن انتصار تيار العزلة في السياسية الخارجية الأمريكية.
وربما كانت هذه هي المفارقة الأساسية في الإدارات الجمهورية التي تعاقبت على حكم الولايات المتحدة في نصف القرن الأخير، والتي لعبت دوراً كبيراً في الترتيبات التي أنهت كثيراً من الصراعات والأزمات الدولية والحروب وكانت أكثر انفتاحاً على الخصوم من الإدارات الديمقراطية، التي أدت سياساتها إلى أزمات وحروب. ويرى الجمهوريون أن تساهل الإدارات الديمقراطية مع الخصوم يشجعهم على تحدي المصالح الأمريكية وتعزيز قوتهم وسعيهم لفرض مصالحهم بالقوة. وربما كان هذا الاعتقاد سبب رئيسي في تصريحات ترامب المتكررة طول السنوات الأربع، بأنه ما كان لبوتين أن يقدم على غزو أوكرانيا وما كانت حماس لتجرؤ على شن هجوم السابع من أكتوبر، وبالتالي ما كان لهذه الحروب أن تندلع لو كان رئيسا للولايات المتحدة. وعلى الرغم من التزامه شخصياً بالنهج الدبلوماسي والاقتصادي لتحقيق المصالح الأمريكية، إلا أنه من الصعب اختبار حقيقة هذا الزعم، خصوصاً أنه لا يطرح نفسه كنقيض للديمقراطيين وسياساتهم فقط، وإنما يصور نفسه على أنه رئيس مختلف حتى عن الرؤساء الجمهوريين السابقين.
قد يكون من سوء حظ ترامب، أن يكون الشرق الأوسط محكاً رئيسياً لاختبار صدق مزاعمه، وربما يكون أيضاً من سوء حظ شعوب الشرق الأوسط أن تكون المنطقة ميداناً لمغامرات ومجازفات شخصية حالمة وقد تكون مفارقة للواقع ومنكرة لحقائقه الموضوعية، تمتلك من أدوات القوة ما يغريها على فرض تصوراتها على الواقع، والمشكلة تتمثل دائما في أن هناك حدودا للقوة يتعين احترامها، وإلا سنكون في مواجهة كارثة محققة. عندما صدر كتاب كيسنجر قبل عامين من صعود ترامب السياسي، كان من المتصور أن يشكل هذا الكتاب دليل عمل لرئيس جمهوري طموح يسعى لتغيير الأوضاع في أمريكا وفي العالم ويسعى لإعادة تنظيم علاقة بلاده مع الحلفاء والأعداء، لكن سياسات ترامب طوال السنوات الأربع التي أمضاها في البيت الأبيض والتي توصف بأنها عاصفة نظراً للتغيرات التي أحدثها كانت تمضي في اتجاه مضاد لتوصيات كيسنجر وتصوراته للعمل من أجل بناء "نظام عالمي" يجنب العالم كارثة يراها حتمية إذا استمرت السياسات على النحو الذي تمضي فيه.
وتقوم رؤية كيسنجر على ضرورة احترام حقيقة اننا نعيش في عالم متعدد الأقطاب ومتنوع في الرؤى والخلفيات في السعي لإقامة نظام عالمي منشود يفتقر إليه العالم ويحتاجه بشدة، لأن البشرية في رأيه وصلت إلى لحظة فارقة، فإما التوصل إلى نظام يكبح الاندفاع إلى حرب أخرى مدمرة، لا يمكن للعقل البشري أن يستوعب ما قد تحدثه من دمار بتأثير التكنولوجيا، وإما الفوضى التي لا يمكن للعقل البشري أيضاً أن يتصور الطريق الذي يمكن أن تفضي إليه، ويرى كيسنجر أن الطريق لتحقيق النظام العالمي المنشود يحتاج إلى توازن دقيق بين ضبط النفس والقوة الشرعية، وممارسة حكيمة للحكم. وهي شروط نأمل أن تتوافر لترامب في فترة ولايته الثانية وأن يظهر الحزم والقيادة اللازمة لكبح قوى التطرف في إسرائيل وفي المنطقة، وأن يتخذ نهجا يقوم على التشاور والتعاون لاستكشاف مسارات جديدة بديلة تقوم على التفاهمات سعيا لوضع أسس للتعايش، ولا تقوم على إملاءات قد تمضي في الأجل القصير، لكن نتائجها كارثية على المدى البعيد. يقف الشرق الأوسط الآن في منعطف تاريخي وستكون لأي خطوات تتخذ فيه تأثيرات بعيد المدى زمانياً ومكانياً.
---------------------------
بقلم: أشرف راضي