كتب الدكتور بدر عبد العاطي وزير الخارجية مقالاً نشرته صحيفة واشنطن تايمز الأمريكية صباح الثلاثاء الماضي بعنوان "حل الدولتين ممكن بين الفلسطينيين واسرائيل". يأتي توقيت نشر المقال مع بدء التصويت في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي ينافس فيها المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي فتح مسارا جديدا خلال إدارته يشير إلى التخلي عن التزام الولايات المتحدة بصيغة حل الدولتين وتحركها نحو حل الدولة الواحدة من المنظور الإسرائيلي. ومضت إدارة ترامب (2016-2020) في وضع أسس هذه الرؤية عبر سلسلة من الخطوات الدبلوماسية أبرزها نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في خطوة خرجت على الإجماع الدولي وما سارت عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة تشير إلى اعتراف فعلي بالقدس عاصمة للدولة العبرية، وتشجيع المستوطنات وإنهاء الارتباط بين تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية وبين إحراز تقدم في حل القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من إعلان كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي ومرشحة الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة تأييدها لحل الدولتين باعتبار المسار الأساسي لحل القضية الفلسطينية، إلا أن هذا التأييد لن يخرج على الأغلب عن القول ولن ينقل إلى دائرة الفعل، خصوصاً مع استمرار موقف الولايات المتحدة الذي يعارض أي حلول مفروضة على أي من طرفي الصراع، والأدق هو أنها تعارض أي حل لا تقبله إسرائيل، في حين أنها لا تعارض بالقدر الكافي من الحسم سياسات الاستيطان الإسرائيلي التي تقوض فرص حل الدولتين، علاوة على أنها لا تطرح خطة عمل واضحة لتفعيل مثل هذا الحل أو المفاوضات التي يمكن أن تؤدي إليه. ويزداد الشك في موقف هاريس في ضوء ما قاله الصحفي الأمريكي ذائع الصيت بوب وودوارد في كتابه الأحدث، الحرب" عن أنها تتخذ فعليا مواقف تتعارض تماماً مع ما تبديه في العلن، تماماً مثلها مثل بايدن، ولكن في الاتجاه المعاكس.
ففي حين يعلن بايدن تأييدا إدارته المطلق لإسرائيل في حربها العدوانية على غزة، فإنه يمارس ضغوطاً قوية على حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وراء الكواليس ويسعي لكبح جموح اليمين المتطرف في تلك الحكومة ويدعم أطرافاً في المعارضة أو في الائتلاف الحاكم نفسه يمكن أن تهدد وضع نتنياهو. في المقابل تعلن هاريس، نائبة الرئيس مواقف شديدة الانتقاد لإسرائيل ومعارضة لسياساتها وداعية لوقف فوري للحرب، إلا أنها تبدي مواقف داعمة لإسرائيل ولنتنياهو وراء الكواليس بحسب رواية وودوارد، والأهم أنها تؤيد بحماس شديد حق إسرائيل في الدفاع عنها نفسها وتعلن في حملتها الانتخابية التزامها الثابت بحماية أمن إسرائيل.
في هذا الصدد، أشير إلى أن مقال وزير الخارجية المصري جاء في إطار المساعي المصرية لحشد المجتمع الدولي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وانتقد الوزير استمرار السياسة الإسرائيلية التي تتبني نهجا قصير النظر يرى أن "القوة والإكراه" سيضمنان أمن إسرائيل وسيؤديان إلى يأس الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير، ورغم تأكيده أن "انتشال الفلسطينيين من اليأس وتقديم مستقبل من الأمل والكرامة لهم، بما يمكنهم من حكم أنفسهم بحرية في دولة مستقلة ذات سيادة" من شأنه أن يحقق الأمن لإسرائيل والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ونبه الوزير بعبارات دبلوماسية، إلى أن لجوء إسرائيل،على مدى عقود، إلى سياسة الاحتلال والاغتيالات واستخدام القوة والبناء المتواصل للمستوطنات غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا يضمن تحقيق السلام والأمن.
سياسات ما بعد الحرب
لا شك أن هجوم السابع من أكتوبر، يأتي تأكيداً لما نبه إليه الوزير المصري من أن استمرار السياسات الإسرائيلية يعني استمرار الأسباب التي تدعو الفلسطينيين إلى مواصلة المقاومة المشروعة للسياسات الإسرائيلية وممارسة الضغط من أجل حقوقهم المشروعة، غير أن رد الفعل الإسرائيلي الذي تجاوز كل الحدود المتصورة في الرد على التهديد الذي تشكله حركة حماس، وإصرار حكومة نتنياهو على مواصلة الحرب حتى يتم تفكيك البنية العسكرية لحماس ولفصائل المقاومة الفلسطينية، بل واستهداف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في غزة وفي الضفة الغربية، باعتبارها المصدر الأساسي لرفد المقاومة الفلسطينية بالمقاتلين ودعامة أساسية للمواقف الأكثر جذرية وتشددا في مواجهة السياسات الإسرائيلية. وخطت إسرائيل خطوة دبلوماسية وسياسية خطيرة، عندما أعلنت إنهاء الاتفاق مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والتي قوبلت بمعارضة من الأمم المتحدة.
من الواضح، أن هذا الهدف الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه مستحيل، بالوسائل العسكرية بعد مرور أكثر من عام على الحرب التي شنتها على غزة والتي توسعت بفتح جبهة ثانية في الشمال مع جماعة حزب الله وبدء سلسلة من الضربات المتبادلة والمحسوبة مع إيران والتي تنذر باحتمال توسع الحرب لتشمل منطقة الشرق الأوسط كلها مع استهداف الحوثيين في جنوب اليمن للسفن الغربية والإسرائيلية واستهداف إسرائيل بصواريخ باليستية ومسيرات، تشير إلى أن الوسائل القتالية الجديدة تعني امتلاك أطراف بعيدة عن الدائرة الرئيسية للصراع لقدرات للتأثير فيه وفي مساراته. غير أن تحليل العمليات العسكرية وما تشكله من تهديد للقدرات البشرية والعسكرية الإسرائيلية، يظل التهديد الذي تشكله فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، هو التهديد الأشد والأكثر خطورة بالنسبة للأمن الإسرائيلي، لكن هذه الحقيقة لا تعمل لصالح حل الدولتين في ظل التغيرات التي شهدتها الساحة الداخلية الإسرائيلية.
فمن ناحية، يخفي التأييد الإسرائيلي واسع النطاق للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، حسبما تشير استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن أغلبية ساحقة من الإسرائيليين ترى أن فوزه مصلحة استراتيجية لإسرائيل، تحولاً في الموقف الإسرائيلي من حل الدولتين. قبل هجوم السابع من أكتوبر، كانت هناك قطاعات من الجمهور الإسرائيلي، لا سيما من اليسار والعلمانيين ومعسكر السلام، مؤيدة لحل الدولتين، إلا أن هذا التأييد تراجع بعد تجربة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في عام 2006. لقد باتت الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين بما في ذلك قوى اليسار ومعسكر السلام، أن أي دولة فلسطينية محتملة ستكون في قبضة حماس وأن هذه الدولة وقيادتها ستكون دمية في يد إيران التي تعلن قيادتها السياسية أن القضاء على إسرائيل هدف تسعى إليه. ويتبين من تحليل مواقف الأطراف المختلفة داخل إسرائيل من الضربة التي وجهتها لإيران، أن هذه القضية تحظى بتوافق عام عبر الطيف السياسي في إسرائيل.
ومن ناحية أخرى، هناك توافق إسرائيلي عام أيضاً على الخطر الذي تشكله حماس، وهذا التوافق ربما يعكس موقفاً تحتياً يرى في الوجود الفلسطيني تهديداً مستمراً لأمن إسرائيل، ويتجلى هذا الموقف في عدم بروز تيار داخل إسرائيل يعارض فكرة تهجير الفلسطينيين في غزة أو يعارض إبادتهم، الأمر الذي أتاح لنتنياهو وأركان حكومته هامشاً واسعاً من حرية الحركة والتمادي في ممارسة القتل في قطاع غزة وضد حزب الله في لبنان، ولا يبدي أي طرف في إسرائيل أي معارضة لتوسيع الحرب والتعامل مع أي مصادر مؤكدة أو محتملة للتهديد والاستعداد لجميع الاحتمالات على كل الجبهات، وهناك توافق عام على أن إسرائيل تواجه تهديداً وجودياً من بيئة معادية، ولا تقلل الاتفاقيات التي أبرمتها إسرائيل مع دول عربية ولا التطلعات إلى شرق أوسط جديد يقوم على تحالفات إقليمية من هذا الإحساس بالتهديد أو الخطر.
من ناحية ثالثة، فإن هذا التوافق العام تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ينعكس على العلاقات اليهودية العربية داخل إسرائيل، مع صعود الأحزاب الدينية واليمينية المعادية لفلسطينيي الداخل بطوائفهم المختلفة والذي يهدد الملامح الأساسية التي تشكلت للدولة الإسرائيلية كدولة ديمقراطية قادرة على استيعاب الجماعات المختلفة داخلها، من خلال صيغة ديمقراطية تقوم على حقوق للمواطنة وإن كانت غير متساوية وتميل لصالح اليهود، والتي تقوض إمكانية حل الدولة الديمقراطية الواحدة لصالح حل دولة الفصل العنصري الواحدة، الأمر الذي يفتح الباب لتحديات جديدة قد تواجهها إسرائيل على المستوى الدولي وعلى مستوى العلاقات بين مواطنيها. ويشكل الوجود العربي داخل إسرائيل تحدياً كبيرا لتيارات اليمين المتطرف، ذلك أن التمثيل القوي لفلسطينيي الداخل في الكنيست وقف لسنوات عديدة حائلا دون تشكيل حكومات يسيطر عليها اليمين المتطرف، وتمكن حزب الليكود بزعامة نتنياهو وأحزاب اليمين من تهميش النفوذ السياسي لفلسطينيي الداخل بوسائل سياسية، وهم ماضون في سلسلة من التشريعات التي تزيد من هذا التهميش والحصار للتواجد الفلسطيني في الداخل، وتضييق سبل العيش لدفعهم للهجرة.
ومن ناحية رابعة، ثمة تغيرات ديموغرافية ترسخ النفوذ المتزايد لأحزاب اليمين المتطرف، نتيجة للهجرة العكسية التي تتركز أساساً في اليهود العلمانيين والمنتمين لليسار والتي تزايدت أعدادها بعد الحرب، إذ ترى قطاعات واسعة منهم أن من الأفضل لهم ألا ينخرطوا في حرب تدعم نفوذ هذا التيار، ونظراً لمتوسط أعداد الأسر اليهودية في أوساط المتدينين، إذ يلاحظ أن متوسط عدد أفراد الأسرة في أوساط هذه القطاعات أكبر بكثير من متوسط عدد أفراد الأسرة بين اليهود الغربيين العلمانيين، الأمر الذي يعني توسع قاعدة التأييد الشعبي لأحزاب المتدينين والمستوطنين وسيطرتهم على السياسات الإسرائيلية لعقود ستأتي ويعزز من هذا الوضع تراجع النفوذ السياسي لفلسطينيي الداخل. وعلى الرغم من النفور الدولي العام من مثل هذا التحول إلا لأن المجتمع الدولي لا يملك بعد أي أدوات لفرض قرارات على الحكومة الإسرائيلية بسبب الدعم الأمريكي العسكري والدبلوماسي الذي لن يتأثر بشكل لافت على الأرجح نتيجة لهذا التغير.
كل هذه العوامل المذكورة لا تعمل في صالح حل الدولتين، رغم التأييد الدولي لهذا الحل. ولا يكفي لفرض مثل هذا الحل حشد التأييد الدولي له، خصوصاً في ظل إدارة جمهورية برئاسة ترامب. ثمة نقطة وجيهة في الطرح الذي قدمه وزير الخارجية المصري تتمثل في أن التقاعس عن التعامل مع الأسباب الجذرية للصراع، تعني استمرار الوضع الحالي بما ينطوي عليه من احتمالات لتطرف الأجيال الفلسطينية الناشئة وتوليد مشاعر الانتقام والعداوة وتكرار دورات العنف. وتمثل هذه الاعتبارات نقطة انطلاق نحو الضغط من أجل سياسات جديدة بمكن من خلالها المضي قدماً في إيجاد صيغ لحل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، أو على الأقل لفتح المسار أمام نمط جديد من التفاعلات يؤسس لعلاقات جديدة تحقق صيغا للتعايش وترسم مسارا مختلفاً للمستقبل في منطقة الشرق الأوسط، وتتعامل مع التحديات الفعلية التي تفرضها التغيرات في بيئات الصراع الثلاث، وتستلهم الدروس المستفادة من المحنة التي لا تزال مستمرة.
العلاقات الإقليمية والشرق الأوسط الجديد
لقد كشفت السنوات القليلة الماضية تحولات جذرية في البيئة الإقليمية للصراع ناجمة عن ظهور نخب حاكمة جديدة بدأت تتعامل مع الدولة ما بعد الاستعمارية في المنطقة كحقيقة، وشرعت في برامج لبناء هوية وطنية لهذه الدول تبلورت على مدى عقود من الصراع الأيديولوجي بين فكرة الوحدة العربية التي روجت لها أحزاب البعث وتيار القومية العربية أو تيار الجامعة الإسلامية، إلا أن هذا التحول لا يزال مهددا نتيجة وجود طموحات إقليمية لدى بعض الجماعات والقوى، كما أنه لا يزال مهددا نتيجة أن مشروع الدولة ما بعد الاستعمارية التي رسخت وجودها بتشجيع من بريطانيا، من خلال جامعة الدول العربية التي ينص ميثاقها الأساسي على تأكيد حدود الدول الوطنية الموروثة وقدسيتها، جاء على حساب جماعات قومية أصيلة في المنطقة وأخرى وافدة، ونشير تحديدا إلى الأكراد والفلسطينيين وإسرائيل، التي تحظى بشرعية دولية استنادا لهذه الصيغة جرى تأكيدها من خلال قرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1947. ويشكل الصراع بين القوى التي تتبنى مشروعات إمبراطورية طموحة وبين النخب المنخرطة في بناء الدولة ما بعد الاستعمارية، أحد المحركات القوية الدافعة للسياسات في الشرق الأوسط المعاصر والتي تؤثر على مستقبله ومستقبل العلاقات بين كياناته ومكوناته.
يمكن النظر إلى الاختلاف الشديد في الرؤية بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح، التي تجسد تيار الهوية الوطنية الفلسطينية والسعي لبناء جماعة وطنية فلسطينية ضمن حدود مستقرة يتم الاتفاق عليها من خلال التفاوض، وبين رؤية حركة حماس التي تمثل تيار الجامعة الإسلامية، والتي تنظر إلى أي اتفاق يتم إبرامه مع إسرائيل كهدنة مؤقتة وترى، مثلما رأى التيار القومي العربي من قبل، في الوجود الإسرائيلي تهديدا لطموحاتها الإقليمية، كأحد تجليات هذا الصراع. الأمر نفسه قائم داخل إسرائيل بين تيار القومي الذي يتبنى السردية اليهودية لإقامة إسرائيل الكبرى وبين التيار اليساري وتيار السلام في إسرائيل الذي أبدى استعداداً للتوصل إلى تسويات، مع الفلسطينيين ومع مصر والأردن ولبنان، تقبل بحدود مستقرة ومعترف بها للدولة.
إن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، والتي تحرم الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره والعيش باستقلال وكرامة في دولته المستقلة، إلى جانب إسرائيل، ستتواصل على الأرجح. ومن المرجح أن تشهد الجولات القادمة للمواجهات العسكرية العنيفة بين الجانبين ويلات أشد وتؤدي إلى خسائر أكبر، فضلا عن تزايد مشاعر الكراهية ومشاعر الانتقام بين شعوب المنطقة وتوسعها في ظل الافتقار لقيادات سياسية تمتلك الجرأة والشجاعة لتغيير هذا الوضع، بل صعود قيادات سياسية تتلاعب بتلك المشاعر وتوظفها لتحقيق طموحاتها وتصوراتها الخاصة أو للدفاع عن مصالهم الضيقة.
ربما يكون السؤال الذي يتطلب إجابة هل من الممكن التوصل لاتفاق فلسطيني- إسرائيلي، دون صيغة تشمل إيران والترتيبات الإقليمية الأوسع. صحيح أن جانبا من المشكلة ينحصر، كما أشار وزير الخارجية المصري، في الممارسات والإجراءات الاسرائيلية التي تستهدف كسر المشاعر الوطنية الفلسطينية، إلا أنها لا تقف عند هذا الحد، نظراً للسياسات الإيرانية تجاه إسرائيل والفلسطينيين، أو أي سياسات عربية أو إقليمية أخرى تدعم الفلسطينيين والتي قد تكون سببا في العداء مع إسرائيل على النحو الذي تبينه السياسات المصرية أو الأردنية أو التركية، علاوة على التنافس الإقليمي بين هذه الدول، بل تشير التطور في العقود الأخيرة إلى دخول جماعات أخرى دون مستوى الدولة إلى ساحة الصراع، على النحو الذي تعكسه تجربة حزب الله والحوثيين، نتيجة لضعف الدولة أو انهيارها.
ومن المرجح، أن يستمر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ما لم تتوافر إرادة دولية قادرة على ممارسة الضغط على إسرائيل وتغيير المعادلة السياسية داخلها، لمواصلة السعي الجاد لإقامة دولة فلسطينية، وما لم يتم التحرك بشكل جماعي لكسر حلقة العنف النشطة أو تحييدها. لقد سعت القوى الدولية والإقليمية المختلفة، ولا تزال تسعى من أجل الحيلولة دون توسع الحرب في غزة إلى حرب إقليمية تتورط فيها أطراف أخرى وتفتح الباب لمزيد من الدمار والخسائر البشرية والمادية التي تتجاوز تأثيراتها حدود المنطقة إلى العالم كله، إذ تشير التقارير الدولية إلى خسائر كبيرة أثرت على الأسواق وعلى الاقتصاد الدولي إلى جانب التكلفة المادية للأسلحة المستخدمة في الحرب والتي جاءت على حساب برامج التنمية.
بقيت نقطة أخرى تتعلق بحديث نتنياهو المتكرر عن شرق أوسط جديد يقوم على تحالفات إقليمية جديدة بين إسرائيل ودول عربية، وتأثيرها على فرص حل الدولتين أو ضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. إن أحد النتائج المترتبة على صعود النخب الساعية للتركيز على بناء هويات وطنية ضمن حدود الدولة ما بعد الاستعمارية هو تراجع التأييد للقضية الفلسطينية والبحث عن فرص للتعاون مع إسرائيل وبناء تحالفات معها لمواجهة تحديات خارجية، وربما داخلية، ويتعين على مصر أن يكون لديها سياسات واضحة في هذا الصدد. لقد تجاوزت التطورات الإقليمية المتسارعة بعد انتفاضات الربيع العربي السياسات التقليدية وفتحت الباب أمام ترتيبات ثنائية، الموقف المصري وربما السعودي التقليدي الذي يربط بين تطبيع العلاقات مع إسرائيل وبين إحراز تقدم في حل القضية الفلسطينية، وتفكك الإجماع الذي كان قائماً بخصوص هذا الأمر في السياسات العربية، وهو الإجماع الذي عطل التقدم الذي جرى إحرازه في المسار الثاني متعدد الأطراف في عملية مدريد للسلام.
والسؤال الآن، في ظل غياب تصورات حول ترتيبات ما بعد الحرب في غزة وفي لبنان، هل يمكن التفكير في طرح مشروعات مشتركة للتعاون الإقليمي مغايرة لما يتم طرحه في سياق التفكير الأمريكي-الإسرائيلي، مثل مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا غبر دول الخليج وإسرائيل والتي قد تنظر إليها بعض الأطراف على أنها تهديد لمصالح إقليمية وربما لمصالح دولية أخرى. هل تمتلك النخب الوطنية العربية الطامحة رؤية للتعاون الإقليمي قادرة على التعامل مع التناقضات التي تعاني منها المنطقة وتوفر إطارا بديلاً لإطار السياسات التنافسية الراهن، وما ينطوي عليه من مخاطر/ وما هي التصورات التي يمكن أن تطرحها مصر في هذا الصدد؟
هذه بعض الأسئلة التي يتعين علينا التعامل معها لإفساح الطريق أمام نمط جديد للعلاقات الإقليمية يستند إلى الحقائق التي كشفتها الحرب في غزة وفي لبنان، والمواقف الإقليمية المتباينة إزاءها. لقد أشرت في عدد من المقالات التي كتبتها إلى ضرورة بدء حوار جاد بين محور التسوية السياسية ومحور المقاومة في سياق السعي لبناء استراتيجية جديدة لإدارة الصراع والتعاون في منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن استمرار التوتر والتنافس بين المحورين بما ينطوي عليه من تداعيات على مستوى السياسات الداخلية والوطنية، أحد الأسباب في الوضع الراهن وقد يكون أحد الدروس المستفادة من الحرب في غزة هو ضرورة إعادة النظر والتفكير فيه. من المؤكد أننا بصدد شرق أوسط جديد قيد التشكل نتيجة لهذا الحدث الكبير، لكن ملامحه لم تتضح بعد ولا يجب السماح للقوى الخارجية بالانفراد في رسم ملامحه مرة أخرى كما فعلت في مطلع القرن العشرين. إن النتائج التي ترتبت على هذا الانفراد واضحة للعيان ولا يجب السماح بتكرار تجربة فرض السلام الذي ينهي أي سلام. قد يكون حل الدولتين مقدمة لتغيير هذا الوضع، والتحدي هو كيف يمكن تهيئة الظروف لمثل هذا الحل، فالمطالبة به وتأكيد ضرورته لا يكفيان.
----------------------------
بقلم: أشرف راضي