كان من أوائل قادة الكتائب الذين كانوا نواة للقوة الرابعة (قوات الدفاع الجوي)، وكان من المعروفين والمتميزين لدى القادة، ولدى الفريق محمد على فهمى قائد ومؤسس قوات الدفاع الجوي، واستطاعت كتيبته حماية الأهداف الحيوية في العمق المصري في نجع حمادي وبلطيم ، وخاضت حرب أكتوبر 1973 في قطاع بورسعيد العسكري، واستمر يخدم في القوات المسلحة حتى تقاعد سنة 1979. ليبدأ حياة مهمة لا تقل أهمية عن حياته العسكرية هي المرحلة البرلمانية، وظل عضوا بمجلس الشعب حتى اعتزل العمل السياسي سنة 2011 وقد كان في معظم الدورات يتولى رئاسة لجنة الدفاع والأمن القومي بالمجلس .. وقد التقيته كثيرا في عزبته القابعة شمال مدينة أبي قرقاص بالمنيا، وقص لي أسرار حياته ومنها هذه السيرة التي تنشر لأول مرة وقد انتخبت منها مادة مقالنا هذا، وكان وهو السياسي المحنك يتذكر هذه الأيام وتذرف الدموع من عينيه.
نشأ فاروق طه عبدالله في أسرة زراعية، وكان والده من الأعيان ومن كبار ملاك الأراضي الزراعية الشاسعة الممتدة في قرية بنى عبيد التابعة لمركز أبي قرقاص بمحافظة المنيا، وكان عمه محمود عبدالله من أعضاء مجلس الأمة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وقد تلقى تعليمه في مدرسة المنيا الثانوية ثم التحق بكلية الهندسة، جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، وقد تزامل عمه مع المشير محمد عبدالحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة وقت أن كان يدرس في مدرسة المنيا الثانوية، وكان صديقه الأثير.
ولد فاروق طه عبدالله في السابع من شهر يونيو 1939، تلقى مبادئ القراءة والكتابة وحفظ أجزاءً من القرآن الكريم في كتّاب القرية، ثم في مدرسة أبو قرقاص الابتدائية ثم الإعدادية، بعدها التحق بمدرسة أبو قرقاص الثانوية، وأمضى بها عامين، ثم حول أوراقه إلى المدرسة السعيدية؛ هذه المدرسة العريقة التي تخرج بها كل النخب في مصر؛ الوزراء والعلماء والعسكريين من أمثال: مصطفى خليل، وعاطف صدقي، وعلى لطفي، وكمال الجنزوري، وغيرهم... وتم إفراد سيرة له في أربع صفحات في الكتاب التذكاري الذي صدر عن المدرسة.
وبعد أن حصل على شهادة الثانوية كان والده يريده أن يلتحق بالكلية الحربية، فسعى عمه وهو عضو بمجلس الأمة لدى المشير عبدالحكيم عامر للتوسط له في دخوله الكلية، وسهّل له كل شيء، واجتاز كل الكشوف الطبية واللياقة وغيرها حتى وصل إلى كشف الهيئة، ووجه له اللواء أركان حرب محمد فوزى مدير الكلية الحربية سؤالاً:
- لماذا أقدمت على الالتحاق بالكلية الحربية؟
فأجابه بعفوية شديدة:
- لأن والدي هو الذي يريد ذلك.
- حسنا، أرسل لي والدك لاختبره مكانك، ويدخل الكلية بدلاً منك، ونهره وأمره بالانصراف.
رجع فاروق إلى عمه وقص له ما حدث، ماذا يفعل؟ وقد كان المشير عامر وقتها في زيارة خارج البلاد، وهداه تفكيره للذهاب إلى اللواء محمود عبدالرحيم مدير كلية الشرطة؛ وهو من أبناء محافظة المنيا، من قرية "نواي" بملوي، ويمت له بصلة قرابة، وذلك لإلحاقه بكلية الشرطة، فأخبره أنهم قد انتهوا من الكشوف، وهم الآن يجرون كشف الهيئة، فقبله استثنائياً، وخلال فترة المستجدين علم والده بأمر التحاقه بكلية الشرطة، فزاره غاضباً من هذا التصرف، ووبّخه كما وبّخ عمه محمود على هذا التصرف الذي تم من ورائه، إذ كان يريده ضابطاً بالجيش، وهدده بإلغاء التحاقه، وأخذه للعمل معه في رعاية أملاكه، ومازال محمود يهديء من روعه، ووعده بأنه سيتصرف في الأمر عند عودة المشير عامر.
أمضى فاروق طه ثلاثة أشهر في كلية الشرطة، وكان ضمن دفعته اللواء حسن حميدة محافظ المنيا الأسبق، ونجح عمه في مسعاه واستصدر قراراً من المشير عبدالحكيم عامر نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بإلحاقه فوراً بصفوف طلبة الكلية الحربية، عندئذ بدأت مرحلة جديدة في حياته، وانتظم في صفوف طلبة الكلية، وتفوق في الفروسية والرماية، وأحرز المراكز المتقدمة في هذه الأنشطة، وكان من ضمن دفعته الفريق محمد عبدالحميد الشحات قائد قوات الدفاع الجوي سابقاً، وتعلم الانضباط من قادته، من أمثال: اللواء محمد فوزى مدير الكلية، والعقيد أ.ح عبد المنعم ابراهيم خليل قائد كتيبته بالكلية، وقد تولى اللواء خليل قيادة القوات الخاصة بعد ذلك، ثم قيادة الجيش الثاني الميداني، فالمنطقة المركزية العسكرية، وعند إصابة اللواء أ.ح سعد مأمون قائد الجيش الثاني أثناء حرب أكتوبر، رجع اللواء عبدالمنعم خليل ليقود الجيش في مرحلة حرجة أثناء الثغرة، وكان على قدر المسئولية، وهو من أبناء محافظة المنيا وأحد القادة العظام التي أنجبتهم، وتعلم الأخلاق العالية ومازالت العلاقة على أشدها معه حتى رحيله.
تخرج الملازم ثان فاروق طه عام 1961 لينضم إلى سلاح المدفعية، جناح المدفعية المضادة للطيران التي كانت نواة لتأسيس قوات الدفاع الجوي- فيما بعد -، وهو التخصص الذي ضم الفريق أول عبد المنعم رياض، والمشير محمد على فهمي.
كان النقيب فاروق طه عبدالله يعمل رئيساً لعمليات أحد أفواج المدفعية المضادة للطيران عندما اندلعت حرب يونيو1967، وقد صدر له الأمر بالتمركز في منطقة (بير تمادا) بوسط سيناء، وكانت مهمة الفوج حماية مطار بير التمادا، كما كان يتمركز بالقرب من المطار اللواء الثاني المدرع الذى كان يقوده العميد أ.ح كمال حسن علي، وتوالت المهام التي كلفت بها القوات المتمركزة بتلك المنطقة التي تبعد عن الحدود بحوالي مائة كم، بما يتبعها من استطلاع المهام والتحضير للعمليات العسكرية .
كان المشير عبدالحكيم عامر قد أزمع القيام بزيارة الجبهة في يوم 5 يونيو 1967، وقد رافقه في الطائرة الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية، والفريق أول سليمان عزت قائد القوات البحرية، وذهب لاستقباله في مطار (بير تمادا) كبار قادة القوات المسلحة منهم : الفريق أول مرتجي قائد القوات البرية، والفريق صلاح محسن قائد المنطقة الشرقية، والفريق أنور القاضي رئيس هيئة العمليات، واللواء أحمد إسماعيل رئيس أركان المنطقة الشرقية، واللواء محمد عبد الغني الجمسي رئيس شعبة العمليات بالمنطقة وغيرهم، وتعطلت بطاريات الدفاع الجوي، وفى الساعة الثامنة وخمس وأربعون فوجئ القادة الموجودون بالمطار بهجوم أسراب من الطيران المعادي بمهاجمة الطائرات الرابضة بالمطار وأصاب الهول الجميع، وهم يستلقون على الأرض يتفادون هذا الهجوم الضاري وظلت طلعات العدو للمطارات تتوالى حتى دمرتها بالكامل، وكانت تستهدف الرجال والمعدات على أرض سيناء الطاهرة، وقد عزلوا عن القيادة في غرب القناة.
كانت البيانات الكاذبة تذاع وتضلل الجماهير العربية في كل مكان، وتعامل رجال الفوج مع الطيران الإسرائيلي وأسقطوا طائرات من طراز (سكاي هوك)، وفى اليوم التالي صدرت الأوامر من المشير عبدالحكيم عامر إلى قادة الوحدات الفرعية بالانسحاب إلى غرب القناة، متجاهلاً قادة الأفرع ودون وجود خطة ارتداد محكمة للحفاظ على انسحاب آمن للقوات المسلحة، فعمّت الفوضى وتكدست القوات على المحاور والطرق عشوائياً، فتتبعهم الطيران الإسرائيلي يحصد الرجال محدثاً خسائر فادحة في الأرواح، وصدرت الأوامر أيضاً بتدمير المعدات والذخيرة، حتى لا يستفيد منها العدو، وعزّ على رجال الفوج ومنهم النقيب فاروق طه مسئول العمليات، أن يدمروا أسلحتهم الذين أقسموا يوما ألا يتركوها حتى يذوقوا الموت.. استولت الحيرة عليهم ماذا يصنعون وعربات الفوج كانت غرب القناة في ذلك اليوم بما فيها سيارة قائد الفوج نفسه، فلابد من حل، فخرج الرجال يبحثون في كل مكان عن وسائل لنقل المعدات والأسلحة والذخيرة، فوجدوا العربات تتحرك على المحور الأوسط وبعضها فارغ، فاستوقف الضباط تلك العربات وتم جر المدافع والمعدات وتحميل الذخيرة، وقد امتنع أحد سائقي تلك العربات عن الوقوف نتيجة إصابته بالذعر بعدما شاهد من أهوال، فأطلق عليه أحد الضباط النار فأرداه قتيلاً، وأخذ منه سيارته لجر باقي المعدات.
وفى طريق العودة للغرب كان الطيران الإسرائيلي يطارد الجنود العائدين، فتبدأ رحلة العذاب من الاختباء والمناورة بالقوات حتى وصلوا في اليوم التالي إلى غرب القناة .
كان المشير عامر قد أعطى أوامره للفريق صلاح محسن قائد المنطقة الشرقية بالانسحاب دون الرجوع للفريق أول مرتجى والفريق أنور القاضي الذين كانوا يرابطون في الموقع المتقدم للقيادة استعداداً للدفاع في الخط الثاني، وكانت كارثة الانسحاب هي التي ضخمت من حجم الخسائر في الأفراد والمعدات.
ورجع الكل إلى الضفة الغربية، وفى يوم 7 يونيو وضحت الرؤية لدى القادة.. فقد وصلت الخسائر فى الأفراد إلى 9800 مقاتل شهيد وفى المعدات 80% .. وتحمّل الرئيس عبدالناصر المسؤولية وأعلن التنحى فى حديث إلى الأمة يوم 9 يونيو، وأمام الشعبية الجارفة له من الجماهير والتى طالبت بعودته، فرضخ لها أخر الأمر، وبدأ مرحلة للقضاء على أثر الهزيمة، وعزل القادة الذين تسببوا في الهزيمة، وعيّن الفريق أول محمد فوزى وزيراً للحربية وقائداً عاماً للقوات المسلحة، والفريق عبدالمنعم رياض رئيساً للأركان، وبدأت مرحلة إعادة بناء القوات المسلحة، ولم يستسلم الأبطال، فلم يمر على النكسة شهر وإلا ووقعت معركة رأس العش الباسلة فى يوليو 1967، وقد استطاعت قوة مكونة من سرية مشاة مدعمة أن توقف زحف القوات الإسرائلية المدعمة من التقدم إلى بور فؤاد، وقد أعادت الثقة هذه المعركة الثقة للمقاتل المصري الذي لم تعط له الفرصة ليقاتل في حرب يونيو.
ستة شهور خارج القوات المسلحة:
بعد النكسة وتولى الفريق أول محمد فوزى القيادة العامة، تمت تصفية رجال المشير، ومْن اقترب منه، وكذلك تم تسريح 54 ضابطاً من دفعة 1948 دفعة العقيد شمس بدران وزير الحربية، وخرج معهم النقيب فاروق طه لصلته الوثيقة بالمشير، فهو الذى أدخله إلى القوات المسلحة وتولاه بالرعاية، خرج من صفوف القوات المسلحة بالرغم من استبساله ودفاعه المستميت في الحرب وإصراره على نقل المعدات والأسلحة والذخيرة ولم يرضخ للأوامر بتدمير هذه المعدات وتفجير الذخيرة.. ونقلها على المحور الأوسط مضحياً بحياته في رحلة استمرت يومين من العذاب والمشقة في سيناء، يختبئ بين الأحراش والتلال والجبال يحمّس الجنود والضباط على الاستمرار، في حين كان الكل يفر وينجو بجلده ومنهم الفريق صلاح محسن نفسه، هذا ولم يكن فاروق قد عرف خدمة النوادي، ولكنه خدم طوال حياته العسكرية في التشكيلات وفى الجبهة.. علام عوقب؟ ..وعاش هذه الشهور العجاف في قريته بنى عبيد يجتر الذكريات بين والده الذى كان يريده قائداً عظيماً بالقوات المسلحة.
عاد النقيب فاروق طه للخدمة فى أوائل عام 1968.. فى نفس الوظيفة السابقة "رئيس عمليات فوج المدفعية المضادة للطائرات"، وعاصر إعادة البناء والتدريب الشاق استعداداً ليوم النصر، وبدأت حرب الاستنزاف وأبلى رجال القوات المسلحة بلاءً حسناً ضد صلف العدوان الإسرائيلى الغاشم، الذي استغاث بالقوى العالمية المنحازة ضد العرب لإمداده بالسلاح، وكان الطيران ذراع إسرائيل الطويل يستهدف القوات على الضفة الأخرى لقناة السويس وأهدافاً حيوية داخل مصر، ونتيجة الضغط المصري على العدو وتكبيده خسائر فادحة، بدأت إسرائيل تبحث عن مناطق هشة الدفاعات فى البحر الأحمر والصعيد، فأغارت على الزعفرانة ونجع حمادى ومحطة الطاقة فى سوهاج وعلى جزيرة شدوان ومدرسة بحر البقر ومصافى الزيوت وغيرها من الأهداف الحيوية .
عندما اندلعت شرارة حرب أكتوبر 1973 كان الرائد فاروق طه قائداً لإحدى كتائب الدفاع الجوي، وقد أبلت كتيبته بلاءً حسناً في هذه المعركة المجيدة التي ردت الاعتبار للمقاتل المصري، وقد رقي بعد الحرب إلى رتبة المقدم وقد تقاعد سنة 1979 بعد أن رقي إلى رتبة العميد ليبدأ مرحلة جديدة حيث انتخب عضوا بمجلس الشعب لدورات عدة وكان يشغل في الدورة الأخيرة رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب..
وقد رحل اللواء فاروق طه في 17 ديسمبر 2015 وتم تشييع جنازته في مسقط رأسه وحضرها حشد كبير من أبناء قريته بني عبيد والقرى المجاورة لها.
-------------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال
* كاتب ومؤرخ مصري