بعد إعلان فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية فجر اليوم الأربعاء، ستبدأ أطراف كثيرة في العالم إعادة ترتيب أوراقها، وربما بعض هذه الأطراف بدأ بالفعل. ففي إسرائيل، أقدم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على تنفيذ قراره المعروف سلفا والمؤجل، وأقال وزير دفاعه يوآف جالانت، الذي أعلن أن الطريق الوحيدة لإعادة المخطوفين الإسرائيليين هو التوصل إلى صفقة تبادل، الأمر الذي دفع عشرات آلاف من عائلات المخطوفين وأنصارهم إلى الخروج في مظاهرات حاشدة أغلقت شوارع في تل أبيب. وأشار نتنياهو لتبرير قراره إلى "فجوات كبيرة" بينه وبين جالانت فيما يتعلق بإدارة الحملة، وكانت هذه الفجوات مصحوبة بتصريحات وأفعال تتعارض مع قرارات الحكومة وقرارات المجلس الوزاري المصغر.
بداية، كان من الصعب عمل توقعات بخصوص نتيجة انتخابات الرئاسة الأمريكية التي وصفها المراقبون بأنها الانتخابات الأكثر تنافسية في تاريخ الولايات المتحدة، حتى الساعات الأخيرة قبل بدء التصويت، لأن نسبة الأصوات المتأرجحة بلغت 30 بالمئة من إجمالي أصوات الناخبين، وأن هذه النسبة تركزت في ولايات لديها أصوات مرجحة وحاسمة في المجمع الانتخابي. ولم تكن المفاجأة في فوز ترامب في الانتخابات فقط، وإنما كانت في فوزه في التصويت الشعبي وفي تصويت المجمع الانتخابي، ليصبح الرئيس الأقوى في تاريخ الولايات المتحدة نظراُ لسيطرة الجمهوريين على مجلسي النواب والشيوخ، الأمر الذي يمنحه صلاحيات شبه مطلقة لتنفيذ سياساته ورؤيته، مما ينبئ بحدوث تغيرات كبيرة وسريعة وحاسمة في كثير من الملفات الداخلية والخارجية، وهو ما لم تتمكن إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية من تحقيقه على مدى أربع سنوات.
خلافاً لترامب، الذي امتلك الجرأة على اتخاذ قرارات تغير من سياسات إدارة سلفه، الرئيس باراك أوباما، الديمقراطية في كثير من الملفات الداخلية والخارجية، لم تتمكن إدارة بايدن من اتخاذ أي قرار يغير من الآثار التي ترتبت على سياسات ترامب، فاستمر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران وأبقى على ملامح أساسية لسياسات سلفه في الشرق الأوسط، واضطر في نهاية المطاف التعامل بواقعية مع حلفاء واشنطن في منطقة الخليج وقدمت إدارته الكثير من التنازلات من أجل الحفاظ على الحلفاء، وانتهي هذا التردد إلى كوارث في أوكرانيا وفي غزة وفي شرق آسيا، وكان لا بد وأن يدفع الديمقراطيون ثمن هذا التردد والعجز عن إعلان مواقفهم بشكل واضح وحاسم، وهذه واحدة من الميزات التي يتمتع بها ترامب، وهي ميزة لا تتوافر إلا لشخص تمثل المغامرة سمة أساسية لشخصيته.
لا يزال مبكراً معرفة الطريق الذي قد يسلكه ترامب أو ما الذي سيفعله إزاء الملفات الساخنة التي تتنظر على مكتبه في البيت الأبيض، وأبرزها ملفات ثلاثة، شرق أوسطية وأوروبية وآسيوية، والحكم على ما يفعله بالنظر إلى ممارساته في فترة ولايته الأولى أمر مضلل في ظل التغيرات الكبيرة التي شهدها العالم في السنوات الأربعة الماضية. وعلى الرغم من أن ترامب أعلن رؤيته في بعض من هذه الملفات، والتي تتلخص في ضرورة وقف الحرب. ففي فترة ولايته الأولى شهد العالم تخفيضا للصراعات المسلحة، بل وحدثت انفراجات كبرى في العلاقات مع روسيا وكوريا الشمالية، لكن الصين واصلت سياساتها التي تتحدى الولايات المتحدة وبناء قدراتها العسكرية وزادت من تواجدها المسلح في بحر الصين الجنوبي وعلى حدودها الشرقية، وظل الصراع مع الصين ملمحا أساسيا لسياسته الخارجية. كذلك، صمدت إيران في وجه العقوبات التي فرضها بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي معها وردت بتجميد بعض بنود الاتفاق وانخرطت في حملة دبلوماسية مضادة وضعت الملف النووي الإيراني مرة أخرى في قلب السياسات العالمية.
قد تكون النقطة المهمة في الوقت الراهن هي تحليل دلالات فوز ترامب، وما يعنيه هذا الفوز أمريكياً، والذي يتطلب معرفة دقيقة بأسباب هزيمة هاريس وفوز ترامب. ومعظم هذه الأسباب لا يتعلق بالحقائق الموضوعية والوقائع أكثر وإنما بالمشاعر والعاطفة والتصورات والمعتقدات الشخصية. فمن المصطلحات التي راجت بعد تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي وفوز ترامب في عام 2016، مصطلح "عالم ما بعد الحقيقة". وأشار قاموس أوكسفورد إلى أم مصطلح "ما بعد الحقيقة" يتعلق بظروف، أو يشير إلى، مواقف يتراجع فيها تأثير الحقائق الموضوعية على تشكيل الرأي العام ويزيد من تأثير العواطف والمعتقدات الشخصية، الأمر الذي يفتح الباب لترسيخ السردية على حساب الحقائق الموضوعية.
على سبيل المثال، لا يمكن فصل فوز ترامب في هذه الانتخابات عن أمرين أساسيين. الأول، هو رفض ترامب الاعتراف بهزيمته في انتخابات 2020، وإصراره على أنه كان ضحية مؤامرة من "الدولة العميقة"، سهلت للديمقراطيين سرقة فوزه الانتخابي. وظل أنصار ترامب يؤمنون بهذه النظرية، وبهذه الطريقة تمكن ترامب من إعادة كسب تأييد قطاعات واسعة من القواعد الانتخابية المعادية للمؤسسة الأمريكية الحاكمة. النقطة الثانية، نجاح ترامب في بناء خطاب انتخابي موجه لمشاعر الأمريكيين ومعزز للمعتقدات الشخصية للناخب الأمريكي بغض النظر عن الواقع والحقائق الموضوعية. لكن تظل الدلالة الأهم لفوز ترامب في هذه الانتخابات هو قدرة الفكرة على تغيير الواقع وبناء واقع جديد مواز. في المقابل، ذهبت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس أبعد مما ينبغي بالنسبة لقيم الناخبين الأمريكيين قي خطابها المتعلق بالمرأة وحقوقها، بما في ذلك حقها في الإجهاض.
وانطلاقاً من فكرة "ما بعد الحقيقة"، كانت السمة الأساسية المهيمنة على الخطاب في هذه الانتخابات، هو الروايات القائمة على ادعاءات كاذبة، وهي الوقود لأسلوب التفكير التآمري الذي تسرب إلى الناخبين الأمريكيين إلى حد زاد فيه الطلب على نظريات المؤامرة عن المعروض من هذه النظريات في السوق. الذي "قد يتجاوز فيه الطلب على المؤامرة العرض"، حسبما ترى كلير واردل، الأستاذة المساعدة في جامعة كورنيل الأمريكي، التي تدرس النظام البيئي المعاصر للمعلومات والتضليل.
ونظريات المؤامرة ملمح أساسي لطريقة تفكير غالبية الجمهور المؤيد لترامب منذ انتخابات عام 2016، وهي نظريات تلقى رواجاً كبيرا في كثير من الأوساط الأمريكية، واطلعت على جانب كبير من أطروحات المؤمنين بها الولايات المتحدة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001. وبلورها فيلم "نظرية المؤامرة"، بطولة ميل جيبسون وجوليا روبرتس، إنتاج عام 1997.
لقد شهدت نظرية المؤامرة رواجاً في العالم العربي في أعقاب حرب الكويت عام 1991، وهناك باحثون وأكاديميون أمريكيون وإسرائيليون روجوا لفكرة أنها سمة ملازمة للتفكير في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، وهو أمر غير حقيقي، إذ أن شيوع هذه النظرية لا يقتصر على العالم العربي والإسلامي فقط، وإنما تروج هذه النظريات في الولايات المتحدة وإلى حد ما في أوروبا، لاسيما فرنسا. وراجت هذه النظريات بشكل خاص بعد فوز ترامب في انتخابات عام 2016، وأيضا بعد هزيمته في انتخابات 2020، وجرى تفسير حوادث عالمية كبرى مثل تفشي فيروس كورونا وجائحة كوفيد-19، التي اجتاحت العالم كله في عامي 2020 و2021. وأصح التفكير التآمري سمة مميزة لكثير من التحليلات التي يطالعها الجمهور على الشاشات.
في تاريخ الرئاسة الأمريكية ما يكفي من الأدلة على تعديل الرؤية حتى في سياق الإدارة الواحدة، على النحو الذي رأيناه في اختلاف سياسات جورج بوش الابن في فترتي رئاسته (2000-2008)، ذلك أن الواقع يفرض نفسه في النهاية على التصورات المسبقة ويعدلها. وانعكس هذا بشكل واضح في الفريق الذي يعتمد عليه الرئيس الأمريكي في تنفيذ سياسته ورؤيته، وإدخال ما يلزم من تعديلات استجابة للتغيرات التي تفرضها التوازنات وحدود القوة. كذلك الحال مع إدارة باراك أوباما (2008-2016)، ولا نعرف إذا ما إذا كان ترامب إذ قدر له الفوز بفترة ولاية ثانية، في 2020، كان سيواصل السياسة ذاتها أم أنه سيعدلها. لكن من الواضح أن ترامب سيأتي بفريق جديد يضم شخصيات تتبنى رؤى مشابهة لرؤية ترامب، لكن معروف عنها أيضاً استقلاليتها، وهذه الاستقلالية كانت سبباً في خروج شخصيات كثيرة وبارزة في فترة ولاية ترامب التي استمرت أربع سنوات.
بفوز ترامب انتهت الرهانات على من هو الرئيس الأمريكي الأفضل بالنسبة لنا في منطقة الشرق الأوسط، هاريس أم ترامب. والإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف المواقع، لكن من المؤكد أنه سيكون لأسلوب ترامب الواضح والمباشر تأثير مغاير لتأثير أسلوب بايدن المراوغ، وهو السلوك الذي أفقد مرشحة الحزب الديمقراطي كثيرا من أصوات الناخبين المسلمين والعرب في أمريكا، الذين فضلوا مقاطعة الانتخابات لمعاقبة الديمقراطيين على مواقفهم أولاً، ولأنهم لا يرون فارقاً كبيراً في مواقف الرؤساء الأمريكيين فيما يخص منطقة الشرق الأوسط. لكن الأمر اللافت أن الناخبين العرب والمسلمين الذين شاركوا في الانتخابات صوتوا لصالح ترامب الذي أعطى لهم رسالة واضحة بأن فوزه يعني انتهاء الحرب على لبنان وفي غزة. ومرة أخرى، تغلبت هنا المشاعر والتمنيات على الحقائق الموضوعية.
وبعيداً عن السياسات التي سيتخذها ترامب، نتساءل هل يقف العالم حقا، ونقف نحن في المنطقة، في موقف رد الفعل على السياسات الأمريكية، أم أن لدى القادة تصوراتهم ومبادراتهم التي تتفاعل مع المواقف الأمريكية وتسعى لتغييرها؟ وهل ستشهد إدارة ترامب الثانية بعيداً عن تفاصيلها حلا لمفارقة التوجه الانعزالي في السياسة الأمريكية والانخراط النشط في الصراعات الدولية، أو بمعنى آخر هل بوسع الولايات المتحدة الانسحاب إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية وتترك العالم يحل مشكلاته اعتماداً على التوازنات القائمة، هل يمكن لترامب أن يترك أوروبا في مواجهة السياسية التوسعية والهجومية لروسيا مثلاً، وهل يترك صراع الشرق الأوسط لموازين القوى المتغيرة دوماً؟ وكيف سيتمكن ترامب من إنهاء الحرب في المنطقة وفي أوكرانيا؟ مرة أخرى، الرهان هنا على تغلب قوة الفكر على الحقائق الموضوعية، فهل سيستطيع ترامب أن يحقق في الساحة الدولية ما حققه على الساحة الأمريكية؟
لكن في كل الأحوال سيكون من الخطأ الرهان على أن ترامب سيسلك في فترة ولايته الأولى ما درج عليه في فترة ولايته الثانية، وهذا الكلام يسري على الجميع حكاماً ومحكومين..
--------------------------
بقلم: أشرف راضي