الحديث عن تحويل مصر من دولة مستهلكة إلى دولة مصدرة، ومن دولة تعتمد على الاقتراض إلى دولة غنية، ومن دولة تهتز اقتصادياً إلى دولة قوية مستقرة، هو حديث عن إعادة صياغة هوية وطن بأكمله. نحن بحاجة إلى ثورة فكرية، اقتصادية، وإدارية تقوم على ثلاثة محاور أساسية: الإنتاج، الإدارة، والسيادة.
نحن دولة غنية بمواردنا الطبيعية وموقعنا الجغرافي وثروتنا البشرية، لكننا للأسف أسرى لمصيدة الاقتراض وسياسات غير واعية تجذبنا نحو الهشاشة. لتحرير أنفسنا، علينا أن نبدأ بالإنتاج الحقيقي، وليس فقط الاستهلاك. بلادنا تمتلك أراضي زراعية واسعة، ولدينا نهر النيل الذي لطالما كان رمزًا للرخاء، فلماذا نستورد القمح والأرز والذرة، ونزرع الورود والنباتات التجميلية؟ لماذا نشتري الملابس والأحذية بينما مصانعنا مغلقة أو تعمل بأقل من طاقتها؟ الانتقال إلى دولة مصدرة يتطلب منا أن نزرع كل ما نحتاجه ونصنع كل ما نستهلكه، ونركز على جودة الإنتاج بدلاً من الكم.
في الإدارة، علينا أن نرفع الكفاءة ونتبنى الشفافية المطلقة. المحسوبيات والبيروقراطية لا تصنع اقتصادًا قويًا، بل تفتح الأبواب للفساد الذي يستنزف ثرواتنا. نحن بحاجة إلى عقول جديدة، عقول شابة قادرة على قيادة عمليات التنمية بشجاعة وابتكار، عقول تعرف أن الإدارة ليست وظيفة ولكنها واجب وطني. نحتاج إلى مؤسسات خدمية تعمل لأجل الشعب وليس لصالح النخبة، ونحتاج إلى إدارات حقيقية للصناعات والزراعات، إدارات تشعر بالمزارع في الحقل والعامل في المصنع، إدارات تتواصل مع العمال وتسمع لهم، وتضع خططاً تشاركية لا تتجاهل العامل والفلاح.
السيادة على مواردنا هي الطريق الوحيد نحو الاستقلال الاقتصادي. لا بد أن نوقف نزيف الاقتراض الأجنبي ونبني منظومتنا المالية على مواردنا الوطنية. صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات المالية الدولية ليست سوى قيد على اقتصادنا، كل قرض يُسحب يُعني إضعافاً للسيادة الوطنية، وكل شرط يفرضه المقرضون هو خنق لحرية القرار المصري. يجب أن ندرك أننا قادرون على الاعتماد على أنفسنا، وأن نحسن استثمار مواردنا بشكل استراتيجي حتى لا نكون أسرى لمن لا ينظر لمصالحنا.
وحتى يتحقق هذا التحول، علينا أن نعيد النظر في أولوياتنا كدولة وشعب. الترفيه والمهرجانات ليست أولوية في وقت يعاني فيه المواطن من ارتفاع الأسعار وانعدام الفرص. يجب أن تتوجه كل الجهود نحو التوعية والتثقيف والتنمية الذاتية للمواطن المصري، حتى يكون شريكًا حقيقيًا في بناء الدولة القوية. لا تنمية دون عدالة، ولا عدالة دون توزيع عادل للثروات. المطلوب ليس فقط إصلاح اقتصادي، بل إعادة بناء القيم الوطنية وروح العمل في نفوسنا جميعًا.
إن تحوّل مصر إلى دولة قوية ومستقلة يجب أن يكون إرادة حرة واعية، إرادة تستمد قوتها من العمال والفلاحين والشباب، من كل من يريد أن يرى بلده في مكانة تستحقها بين الأمم.
-----------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
* قيادي عمالي مستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومى للعمال والفلاحين تحت التأسيس