قليلا ما أشعر بالغيرة لأن عملاً أدبياً أو فنياً قد كتبه غيري، ولكنني لا أنكر هذا على نفسي أو على الكاتب، فالغبطة أمر مستحب بين الناس والكُتَاب أيضاً، وربما لأن الأجواء السحرية لكتابة أدب المطبخ أمر خاص جداً بي، حيث كنت أول من كتب أدب المطبخ باللغة العربية من خلال مجموعتي القصصية "طبيخ الوحدة" التي طُبعت عام 2014 وحققت مبيعات كبيرة حينها، واحتوت على عدد من الوصفات والقصص المختلفة لكل طبخة، وكانت الوصفات كلها من المطبخ المصري أيضاً، كما ضمت كذلك قصتين عن صينية البطاطس والملوخية، لذلك عزف مسلسل "مطعم الحبايب" على أوتار قلبي.
يأتي مسلسل "مطعم الحبايب" بمذاق تتبيلة بيوتنا المصرية القديمة بعيدا عن التأثر الكبير بتوابل الشعوب المجاورة وهو ما حدث خلال الثلاثين عاماً الماضية، حيث نسى المصريون طريقهم إلى المطبخ ونسوا سحر البيوت المعتقة برائحة الطعام والأطباق المصرية الأصلية، التي يتحدث عنها كثيرون الآن وكأنها نوع من أنواع التخلف، بينما يُعد المطبخ المصري بتنوعه بين الدلتا والصعيد والقاهرة ومدن القناة وساحل البحر الأبيض المتوسط والواحات وسيناء شمالاً وجنوباً، من أغنى وأقيم وألذ المطابخ في العالم، وهذا ما استطاع مسلسل "مطعم الحبايب" القيام به، فلقد أخذ المشاهد بكتابة وإخراج وإضاءة سحرية نحو عالم المطبخ المصري القديم منذ عصر المماليك، من خلال شخصية متخيلة لامرأة مصرية بسيطة اسمها وديدة وزوجها الحبيب علي، الذي يتعرض لحكم بإعدامه على يد الحاكم بأمر الله، فتنجح وديدة في إنقاذ زوجها بطبخة ملوخية تقدمها للحاكم بأمر الله الذي منعها، فيحكم على وديدة بأن تطبخها له وحده طوال عمرها ويأمر بإعتاق رقبة زوجها.
المُؤثر حقاً هو صوت سوسن بدر التي تُجسد بصوتها وديدة الأولى فتسرد على مسامعنا وعلى وديدة أبو المجد المعاصرة قصة كل الوديدات مع مطعمهن "مطعم الحبايب" الذي أغلق نهائياً في الثمانينيات عندما انتشر الطعام السريع "التيك أواي" وأصبح الناس يأكلون بسرعة ودون أن يجتمعوا على سفرة واحدة أو يعطون الطعام حقه من الوقت.
تكتشف وديدة أبو المجد كتاب الوديدات الذي سجلت فيه كل وديدة طبختها المفضلة أو طبختها التي غيرت مسار حياتها، وعلى وديدة الحالية أن تكتشف طبختها وتُضيف إليها من روحها، وهنا نتعرف على شخصية وديدة الحالية التي تحمل كل سمات العصر المليئة بالصور اللامعة والمزيفة في نفس الآن، فوديدة تختار اسم ديدي وتكره اسمها الأصلي، ورغم أن أبيها "شيف مشهور" تُقرر أن تلعب الدور السهل في عالم المطاعم، وهو دور الذواقة، الذي يذوق ويحكم وتدفع له المطاعم حتى يزورها ويروج لها، فتعيش هذه الحياة بكل زيفها وترتبط بشخص يشبه الحياة التي تعيشها، أو يعيشها أغلب الناس الآن، شخص مزيف ووظيفة مزيفة تجلب الملايين دون قيمة حقيقية لما يُقدم من فائدة للمجتمع أو للعالم.
وسط كل هذا الزيف الذي تعيشه وديدة، يقع الحدث الذي يقلب حياتها رأساً على عقب مع قرار والدها بإعادة إفتتاح "مطعم الحبايب" الخاص بجدته "وديدة فلفل" آخر الوديدات التي قررت إغلاق المطعم إلى الأبد مع تخبئة أدوات مطبخها وصحونها وحللها مثلما تُخبأ الكنوز وتُخفي كتاب الوديدات بحرص حتى يصل إلى من تستحقه من الوديدات يوماً ما.
هنا تبدأ اللعبة، فعلي الذي يظهر لكل وديدة، مدرس تدبير منزلي في العصر الحالي، وينتمي إلى منطقة "القلعة" الشعبية وهو أيضاً طباخ ماهر يحلم بافتتاح مطعمه المتخصص في ساندويتشات الكبدة، يلتقي بوديدة في حفل خطبتها وينتصر لكبدته التي تلتقط وديدة معها صورة "سيلفي" لحساب السوشيال ميديا الخاص بها دون أن تأكل، وهنا تبدأ أول شرارة بينهما في صورة صراع، أما على الجانب الآخر يهتم والدها أبو المجد الشيف الشهير بساندويتشات علي ويأخذ نمرة هاتفه ليتواصل معه فيما بعد. نشاهد علي بعد ذلك وهو يخسر حلمه في افتتاح مطعم الكبدة الخاص به وتأخذ البلديه عربة الكبدة خاصته، بينما تتركه خطيبته لتتزوج بآخر غني.
يقرر أبو المجد افتتاح "مطعم الحبايب" بعد أن تقطعت به السبل أيضاً، فقد تم الاستغناء عنه في القناة التلفزيونية الكبيرة التي يقدم فيها برنامجه الشهير عندما رفض تقديم طعام بلا قيمة يناسب العصر الأسرع من السريع، وبالتالي يلجأ إلى حضن جداته من الوديدات ليبدأ مغامرته الجديدة في حضن مطعم أثري في مكان شعبي مع شيفات مطابخ شعبيين، مثل الست غالية الملقبة بأم الطواجن "الفنانة إنتصار" والتي تطبخ طواجنها في الشارع ولا تسلم من أذاه، ومو بشندي طباخ الأكلات الشعبية "، وحسن رغيف أو الشيف حسن مساعد أبوالمجد "حمزة العيلي" الذي تدهور حاله بعد ترك برنامج الطبخ الشهير ويواجه نفس مصير أبوالمجد.
لدينا مجموعة من الشخصيات التي يفتح لها "مطعم الحبايب" باباً جديداً في الحياة بعد أُغلقت جميع الأبواب في وجوههم، حيث يلتفون جميعاً حول وديدة التي حكم عليها والدها أن تعمل في المطبخ مساعدة بعد أن ورطت نفسها في فضيحة على الهواء كبدتها مخالفة قدرها مليون جنيه، فيتركها خطيبها ولا تجد أمامها ملجأً سوى "مطعم الحبايب" وهنا نبدأ مشاهدة تغير المصائر للجميع ورحلة عودة "ديدي" فتاة العصر الغارقة في العدم العصري إلى "وديدة" ذات الجذور والأصل الضارب في التاريخ.
المطبخ والطعام هنا رمز لأصلنا المصري العتيق، رمز لشخصيتنا المصرية ذات الملامح المكتملة والتي لا تحتاج إلا لرتوش بسيطة كي تواكب العصر، لكننا نستطيع الاكتفاء بما لدينا ولا نحتاج لأن نقلد أحداً أو نُحاكي حياةَ آخرين أو نتحول لأطباق غير أطباقنا الشهية والتي تُشكل أصل كل الأطباق الموجودة على موائد جميع البلدان المجاورة، والتي نعاني من غزوهم لبلادنا وفي عقر دارنا للأسف.
التمسك بالهوية من خلال المطبخ فكرة لا تقل في عمقها عن أفكار فلسفية كثيرة ناقشت الانتماء والهوية، فمصر بهويتها الضاربة جذورها في التاريخ لا تحتاج لطعام الآخرين ولا ملابس الآخرين وعادات وتقاليد الآخرين، فنحن حدود جغرافيا وشعب قائم بذاته ومكتف بذاته تماماً.
أعاد "مطعم الحبايب" اكتشاف الممثلة الشابة هدى المفتي، التي أراها لأول مرة تُمثل فعلاً وتتقن الدور باحترافية مبهرة، وكذلك أحمد مالك الذي قبض على شخصية صبحي ابن منطقة القلعة الذي يبيع الكبدة على عربة ولكنه متعلم ولديه حلم بكلتا لديه فسحب أرواحنا في يديه وهو يداعب خيالنا بإبن البلد الجدع الذي يعرف الحب ويعتز بذاته، وكذلك حمزة العيلي أو الشيف حسن الذي يبهرنا اليوم بعد الآخر بشخصيات مختلفة في مسلسلات مختلفة وحالياً، وغيرهم من باقي الفنانين الذي استطاعوا أن يأخذوننا في رحلة داخل دراما سحرية رائقة، من خلال نص قدم فكرته مصطفى سليمان وكتبه مجموعة من كتاب السيناريو المتميزين تحت إشراف مريم ناعوم وإخراج عصام عبد الحميد. فشكراً للجميع.
-------------------------
بقلم: أمنية طلعت