07 - 05 - 2025

تعرف تتكلم " مصري " !

تعرف تتكلم

ليس ضرورياً أن يكون لدينا تعليق علي كل حدث ، خاصة وأن الضجيج في الفضاء العام يصم الآذان .

إلا أن بعض من نحب ، يلحون في طلب الرأي ، حتي ولو اختلفوا معه في النهاية ، وفي الواقع تكتسب بعض الأحداث أهمية مركبة مهما كانت تفاهتها ، إذا أصبحت محل نقاش عام .

تفاديت دائماً ، إلا فيما ندر ، التعرض مثلاً لمنافسات كرة القدم ، رغم أنني شأن العديد من المصريين ، ولدت بهوية كروية معينة ، وعرفت في صباي بعض صنوف التعصب لتلك الهوية ، التي لا اعرف كيف اختلطت وقتها بمعان عميقة ، جعلت من التمسك بتلك الهوية نوعاً من الوطنية الغالبة ، وهو ما تغلبت عليه فيما بعد ، بحكم الوعي والنضج وإدراك أن " الرياضة" بطبيعتها  تتناقض مع " التعصب " ، وأن " الأهلاوي " أو " الزملكاوي " أو أي منتم لنادي آخر ، لا يقل وطنية ، ولابد من فهم الطبيعة السمحة للرياضة ، بإعتبارها تطهير للجسد والروح ، وتشجيع علي المحبة ، وتفريغ لرغبات الصراع في شكل تنافس راقي .

وعلي نفس المنوال السابق ، كنت أتحاشي التورط في موضوعات مماثلة ، أراها سبباً في نشر فتنة أو تسطيح للوعي ، وصرف الإنتباه إلي ما لا يستحق ، والأمثلة كثيرة ، أخشي الإشارة إليها حتي لا يظنن أحد أن ذلك نوعاً من التعالي علي اهتمامات الناس العادية ، والواقع أن ذلك غير صحيح ، وخاصة لشخص له طريقتي في التفكير ، وعلي كل حال ذلك موضوع يطول شرحه ، وربما تطلب مساحة أخري أوسع لطرحه .

لعل السبب المباشر في إقدامي علي كتابة ما تقدم ، هو تلك الزوبعة التي ثارت علي هامش تغيير كلمات أغنية " تعرف تتكلم بلدي " ..والتي تم تحوير بطلها " المصري " إلي " يبقي انت صحيح العربي " .

لقد نالت بعض الإنتقادات الأخ الشاعر جمال بخيت ، والموسيقار الرقيق عمر خيرت ، بل والفنانة " التونسية " التي " باعت " ولاءها للمصري الذي كان سبب شهرتها .. إلخ .

وبعض هذه الإنتقادات لا غبار عليها ، فقد كان لدي الشاعر والملحن القدرة علي خلق أغنية جديدة لا تتعكز علي أغنية صارت جزء من التراث السمعي ، خاصة بعد أن أجاد الفنان العالمي يوسف شاهين إخراجها في فيلم :" سكوت .. ها نصور " .

إلا أن انتقادات أخري تجاوزت في حق ذلك الفريق المتميز ، وبالغت في اتهامهم بالتفريط ، والبيع ، وعدم الوطنية ..حتي لدي " التونسية " !!..

الفنان حر ، مثل كل طائر يحلق في الفضاء ، يبدع ما يراه وما يشاء ، حتي لو أراد أن ينزع بعض ريش أجنحته ، لأجل ضمان عيش كريم ...

لماذا يطالب أحد من الفنان أن يقاوم وحده كل الإغراءات ، ويتقدم صفوف الجائعين ، في معركة البقاء ؟...

أن الفنان في النهاية كائن حي ، يأكل ويشرب ، يسكن ويلبس ، وله مثل اغلب الناس طموح قد يغلبه طمع ، أو طمع يتقمص شكل طموح .

صحيح - من وجهة نظري - أن بعض التراث الغنائي ، يعتبر بمثابة " بصمة صوتية " لا يستساغ خلطها أو تزويرها ، تماما مثل الألحان الفلكلورية التي نحتت في صخور الوجدان القومي ، وأصبحت في ذاتها قيمة ينبغي صيانتها وعدم العبث بها ..

أظن أن ذلك حق ، مثلما يعتبر حقاً "البصمة العينية" التي تُكسب أثراً عقارياً قيمة إضافية خاصة ، لا يجوز التفريط فيها ، أو هدمها لأي إعتبار ، حتي ولو كان لمنفعة عامة - كما يقال - ، لأن منفعة " البصمة الحضارية " سواء أكانت صوتية أو عينية ، تتجاوز أي منفعة آنية ، فهي منفعة " عبر أجيال " ، ولا يحق لجيل أن يتصرف فيها بحجة منفعة طارئة أنانية .

لكل ما تقدم ،ومع تحسبي الذي قدمت به هذا المقال ، فأنني تمنيت لو أن شاعرنا الكبير جمال بخيت قد تخلي عن كسله الإبداعي وأنتج نصاً غنائياً آخر، يتم وضع موسيقي جديدة له ، ويحمل تلك المعاني التي ركبها علي " المصري " ، إلا أنني في نفس الوقت لا أملك فرض أمنيتي علي فنان له رؤيته الخاصة ، كما أن له احتياجاته ..وربما تلك الأخيرة هي تحديداً " بصمة " العصر الحالي .
--------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق

مقالات اخرى للكاتب