23 - 03 - 2025

صباحيات | هل لا يزال التعايش اليهودي العربي ممكنا؟

صباحيات | هل لا يزال التعايش اليهودي العربي ممكنا؟

أقيمت في إسرائيل، ظهر أمس، مراسم تأبين لضحايا هجوم السابع من أكتوبر عام 2023، ألقى خلالها أقارب كلمات في رثاء من قتلوا في الهجوم الذي قادته حركة حماس وأدى إلى حرب لا تزال مستمرة ومرشحة للتوسع مع استمرار الجمود في المساعي للتوصل إلى صفقة تؤدي إلى هدنة ولو قصيرة أملا في كسر حلقة الصراع الدامي المتواصلة. وتحدث البعض عن ضرورة العمل لإعادة بناء الثقة بين إسرائيل والفلسطينيين، وواكب تلك المراسم تصريحات لمسؤولين إسرائيليين عن مساعدات ستقدم للفلسطينيين في قطاع غزة تشمل إقامة مستشفيات ميدانية وتقديم معونات غذائية وإمدادات أساسية. والسؤال الذي تستدعيه مثل هذه التصريحات، هل لا تزال هناك إمكانية للتعايش اليهودي العربي على أرض فلسطين؟ 

إذا انطلقنا في إجابتنا لهذا السؤال من تقسيم المواقف على أساس التطرف أو الاعتدال، ستكون الإجابة الحاسمة للمتشددين على الجانبين هي استحالة مثل هذا التعايش، ويقف وراء تلك الإجابة موقف متشدد رافض للتفاهم أو التعايش مع الآخر انطلاقاً من أسباب مختلفة ومتباينة، وباستثناء ذلك سنحصل على إجابات مضللة على الأرجح. والإجابة على هذا السؤال غير واردة في هذه اللحظة تحديداً مع استمرار المعارك وما تتضمنه من مآسي إنسانية ومرارات لدى الفلسطينيين واللبنانيين، وما تنقله شاشات التلفزيون من مشاهد من ميادين القتال التي شملت مناطق كاملة وما يتعرض له المدنيون في غزة وفي جنوب لبنان وفي الضاحية الجنوبية جراء الهجمات العسكرية الإسرائيلية، والتي تلهب مشاعر الجمهور، سواء في العالم العربي والعالم الإسلامي وفي مناطق أبعد في العالم.

يمكن القول إنه في ظل عدم التكافؤ الراهن بين اليهود والفلسطينيين والناجم عن الاحتلال الإسرائيلي والتعارض الشديد في رؤية كل طرف من طرفي الصراع لما يوصف بأنه حقوق تاريخية، لم تتوافر بعد الشروط الضرورية لقيام تعايش بين الجانبين، إذا ما استبعدنا حالة فلسطيني عام 1948، الذي أصبحوا مواطنين لهم حقوق منقوصة في دولة إسرائيل، لكن تلك الحقوق المنقوصة تفوق كثيرا ما يتمتع به رعايا أي من الدول العربية المجاورة بل تفوق حقوق الفلسطينيين في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية أو أولئك الخاضعين لسلطة حماس في قطاع غزة، كما أن هجوم السابع من يناير طال مواطنين عربا في منطقة غلاف غزة إلى جانب اليهود، إذ هناك مخطوفين وقتلى من الفلسطينيين والبدو العرب، هذا أحد الأسباب في موقف عرب 1948 من الحرب الدائرة في الجنوب وفي الشمال.

بالتأكيد، كان للمواجهات الإسرائيلية الفلسطينية منذ عام 2000، في أعقاب فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية حول بنود الاتفاق النهائي بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل، والانقسامات الحادثة على الجانبين بشأن الموقف من مفاوضات السلام وشكل الحل النهائي بين قوى مستعدة للتوصل إلى اتفاق وصيغ للتعايش، وقوى أخرى على الجانبين ترى أن أرض فلسطين لا تتسع إلا لطرف واحد، وقوى ثالثة تدرس حلولا بديلة للتعايش. 

بداية، يلاحظ أن التعايش قائم بالفعل بين الفلسطينيين العرب وبين اليهود بصيغ مختلفة وبدرجات متباينة بين المواجهة العسكرية المسلحة وبين أشكال من التعاملات التي لا تخلو من صور العنف والقهر في فترات الهدنة، وأن هذا هو نمط العلاقات اليهودية العربية منذ 80 عاماً، لكن التطورات الأخيرة على الساحتين الفلسطينية واليهودية، تشير إلى أن هذه الصيغة للتعايش تتعرض للتهديد طول الوقت، وإذا لم يحدث تحرك على صعيد تعزيز ما هو قائم من صيغ للتعايش، وتطوير صيغ بديلة، فمن المرجح أن القوى الرافضة ستقوى بما ينذر بحروب طويلة وممتدة، وليست المواجهة الراهنة سوى مقدمة لما سيأتي.

انتهاء حالة "اللا سلم واللا حرب"

المواجهة العسكرية الحالية بما تنطوي عليه من احتمالات قوية لأن تتوسع لتشمل أطرافاً أخرى بعيدة عن دول الجوار، مع دخول اليمن وإيران، تنهي حالة "اللا سلم واللا حرب" التي هيمنت على الصراع لعقود طويلة، والتي شهدت اتفاقيات بين إسرائيل وكل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية أوجدت مستويات مختلفة من التعاملات المصحوبة بتوترات أوجدت صيغاً لما يُعرف بـ"السلام البارد"، التي ليست سوى صيغة أخرى لحالة "اللا سلم واللا حرب" أو الهدنة الممتدة أو طويلة الأمد. لقد أشار توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والمغرب في أوائل عام 2000، إلى محاولة لكسر الجمود في اتجاه تطبيع كامل للعلاقات بين إسرائيل وبين دول عربية دون إحراز تقدم في اتجاه حل القضية الفلسطينية، والشروع في التفكير في خطط للتعاون الاقتصادي والاستراتيجي، لكن هجوم السابع من أكتوبر عطل هذا المسار، ولا يعرف مصير التسويات الجزئية دون نظر للوضع الإقليمي العام، وبدا الأمر كما لو أن المنطقة تدور في حلقة مفرغة منذ حرب عام 1991، والتي نبهت الولايات المتحدة ونبهت العالم إلى الارتباط بين المشكلات الإقليمية، وكان مؤتمر مدريد محاولة للحل. 

غير أن فشل المسار الثاني لعملية مدريد في أن ينتج تصورا بديلاً للعلاقات في المنطقة، والذي يُعزى إلى الجمود في عملية السلام على المسارين السوري والفلسطيني، بالرغم من توقيع اتفاقية أوسلو، لم يؤد إلى تعزيز مسار الحلول التفاوضية التي تؤدي إلى نمط جديد من العلاقات والتفاعلات قد تؤسس لوضع إقليمي أكثر استقراراً، في حين رجحت المواجهات المسلحة بين إسرائيل وبين فصائل المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وجماعة حزب الله، وتوسع محور المقاومة بظهور فصائل جديدة تدعمها إيران، يرجح احتمال استمرار الحروب والمواجهات العسكرية مع إسرائيل، بينما تعزز الممارسات الإسرائيلية التي تكشف عن روح عدوانية توسعية وإصرار على احتكار إسرائيل لحرية العمل العسكري في المنطقة بدعوى الدفاع عن أمنها، وما يتعرض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلة وفي قطاع غزة والاعتداءات المتكررة في العمق السوري وفي لبنان، والتهديد المستمر بالدخول في حرب ضد إيران يعزز المعارضة الشعبية الواسعة لإسرائيل والدخول في علاقات سلام معها في أعين الجماهير العربية. 

ليست آخر الحروب

يشير هذا الوضع إلى أن المواجهة العسكرية الحالية لن تكون الأخيرة، ما لم تتوافر إرادة قوية للشروع في مسار آخر، يؤسس لوضع يساعد على بناء الثقة على مستوى العلاقات بين الشعوب، إذ أننا أصبحنا في وضع لا يسمح بأن يكون تطور العلاقات على المستوى الشعبي هو الدافع الرئيسي لكسر نمط العلاقة القائمة على الصراع والمواجهات المسلحة، ومن المستبعد أن تتمكن إسرائيل بالرغم من تفوقها العسكري الكاسح وبالرغم من مستويات الدعم الدولي الذي تتمتع به والذي يوفر لقادتها وجنودها ومقاتليها مستويات من الحماية في مواجهة القانون الدولي، والمحاسبة على ما يرتكبونه من جرائم موثقة، لا تتمتع به دول أخرى في المنطقة أو خارجها. ولعل أحد الأسباب الرئيسية لذلك يتمثل في تراجع ما يعرف بقوى السلام في إسرائيل، والتي كانت في مرحلة ما لاعباً أساسياً في كثير من المبادرات الساعية لفتح مسارات بديلة للعلاقات، والتي كانت نشطة على الساحة الفلسطينية من خلال المظاهرات ضد قوات الاحتلال والتي كانت محرضة وحامية لرافضي الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة من الإسرائيليين.

أحد الأسباب وراء ذلك التراجع يتمثل في العامل الإيراني، والخطاب الإيراني الخاص بالموقف من إسرائيل والداعي إلى القضاء على مشروعها، ودعمها للفصائل الفلسطينية وفصائل أخرى في لبنان واليمن وسوريا وأخيراً في العراق للدخول في مواجهات عسكرية لاستنزاف القوات الإسرائيلية وإنهاكها في مواجهات عسكرية غير متكافئة، تؤثر على استقرار الحياة في إسرائيل، في حين أن السلوك الإسرائيلي يدفع الدول إلى التعامل الحذر والاستعداد لمواجهة محتملة والسعي لتأجيل هذه المواجهة عبر دعم فصائل المقاومة لشغل إسرائيل. هناك قطاعات كبيرة من قوى السلام الإسرائيلية باتت مقتنعة، لاسيما بعد تجربة حماس في غزة أن أي دولة فلسطينية محتملة ستكون أداة في الاستراتيجية الإيرانية التي تستهدف وجود الدولة وكيانها، وأصبحوا أكثر تماهيا مع المنطق الذي يطرحه نتنياهو المتمثل في تعزيز الصهيونية لمشروع للمستقبل.

إن ما طرحه نتنياهو عن شرق أوسط جديد في أعقاب اغتيال حسن نصر الله وقيادة حزب الله في هجوم بالطائرات التي دكت الموقع بثمانين طنا من القنابل القادرة على اختراق التحصينات تحت الأرض، وكرره بعد مقتل يحيى السنوار، زعيم حماس في اشتباك مسلح قرب رفح في جنوب الضفة الغربية، لا يخدم هدف السلام، وإنما يعزز الاقتناع السائد لدى قطاعات عريضة من الجمهور العربي والإسلامي بأن السلام الذي تتطلع إليه إسرائيل هو "إذعان" وهو أمر من المستحيل أن يقبلوه وإن قبلته الحكومات لاعتبارات عملية. 

ومن المرجح استمرار حالة الصراع وانعدام الثقة المتبادلة لبعض الوقت مع غلبة منطق "إدارة الصراع" على منطق حله أو تسويته، وطالما ظل منطق بناء السلام غائباً، وطالما غاب عن التفكير الاستراتيجي فكرة الارتباط الوثيق بين مشكلات المنطقة وصعوبة التعامل معها. 

إن صيغة الشرق الأوسط المعاصر التي تبلورت في السنوات التالية للحرب العالمية الأولى وأخرجت منظومة دوله الراهنة في الحقبة الاستعمارية في عام 1922، والتي ترسخت مع إنشاء جامعة الدول العربية التي تأسست على مبدأ قبول الدول بحدودها الراهنة في الحقبة ما بعد الاستعمارية، وتأكيد مبدأ السيادة الوطنية لهذه الدول من خلال تكريس عدم التدخل وعدم السعي لتغيير الحدود القائمة بالقوة المسلحة، بحاجة إلى إعادة نظر وهذه مسألة لا يمكن أن تتحقق من خلال التفكير النمطي والتقليدي وإنما من خلال تفكير إبداعي قادر على إيجاد حلول عملية وممكنة تفتح الباب أمام صيغ جديدة للعلاقات بين دوله.

وتأكيداً لفكرة عملية الحلول والتصورات للمستقبل، يتعين الانطلاق من اللحظة الراهنة والواقع الجديد الذي أفرزه هجوم السابع من أكتوبر العام الماضي وما ترتب عليه من حرب هي الأكثر دموية في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، والجولة العسكرية الأطول على الإطلاق في تاريخ هذا الصراع. نستند في هذا التقييم إلى تجربة أطلقها شاب يهودي وشاب فلسطيني على مدى عشر سنوات بلورت فكرة "دولتين، وطن واحد: أرض مفتوحة للجميع"، وبعد عام، أجرى الشريكان في المبادرة والمؤسسة حواراً يلخص الوضع الراهن، وحدود تقدم الحوار الفلسطيني الإسرائيلي المتمثلة في عدم قدرة الطرف الفلسطيني، ومن ثم العربي،على فهم عمق الصدمة العاطفية التي شعر بها الإسرائيليون إزاء (ما سمي بــ) الفظائع التي ارتكبتها حماس، والتي يقابلها عدم قدرة الإسرائيلي على فهم عمق صدمة القتل الجماعي المتعمد للشعب الفلسطيني في غزة، والإقرار بأن الحوار لا يدور بين طرفين متساويين، أحدهما يمثل الطرف المحتل والآخر يمثل الطرف الخاضع للاحتلال. قد يكون في إقرار الشاب الإسرائيلي الذي دون المحادثة في نشرة 972 الإسرائيلية، والتي تتبنى رؤية نقدية للسياسات الإسرائيلية، بمسؤولية السياسات الإسرائيلية عن كل أعمال العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأن تصحيح هذا الظلم يقع على عاتق الإسرائيليين، إلا أن هذا الرأي لا يعكس اقتناع أغلبية من الجمهور اليهودي، والأهم أنه لا يقابله تفكير إيجابي داعم من الطرف الفلسطيني والعربي بل يقابله خطاب يعزز اليمين الصهيوني.

والمحادثة المنشورة بالكامل مع الموقع الإلكتروني لنشرة 972، جديرة بالقراءة، اللافت للنظر في هذا الحوار أن كلا الطرفين الداعمين لفكرة التعايش بين الشعبين لا يملك إجابات على الأسئلة التي يطرحها المجتمع الذي يعيش فيه، والناجم حقيقة عن حجم دعم الرأي العام الإسرائيلي للقتل والتجويع الذي يتعرض له الفلسطينيون في غزة، وأن المجتمع الإسرائيلي أصبح أكثر تطرفاً من الجيش ووصوله إلى نقطة لم يعد فيها هناك حدود لما يمكن أن تفعله إسرائيل. هذا الوضع يضع المسؤولية على الطرف الإسرائيلي والعمل من أجل هزيمة اليمين الإيديولوجي في إسرائيل، باعتبارها مصلحة لليهود الإسرائيليين الذين يعتقدون أن إسرائيل يجب أن تستمر في الوجود، قبل أن تكون مصلحة للفلسطينيين، وأن هذه السياسة اليمينية، في النهاية، لن تؤدي إلى المصالحة أو التعايش بين الشعبين وإنما ستؤدي إلى زوال إسرائيل.

الانطلاق من حقيقة أن هناك سبعة ملايين إسرائيلي وسبعة ملايين فلسطيني على هذه الأرض، وأن الحرب لن تغير هذا الواقع، حتى لو دخلت إيران أو سوريا الصراع، أو إذا احتلت إسرائيل بغداد، يشير إلى إمكانية تحول هذه الحرب إلى فرصة، يمكن أن تؤدي إلى تفكير مختلف. لم يتم القضاء على الشعب الفلسطيني ولم يتم القضاء على الإسرائيليين، لذلك يتعين علينا البحث عن خيار آخر، يوازن بين الأزمة الوجودية للفلسطينيين المتعلقة بالغذاء والماء والسجون ومراكز الاعتقال، مع أزمة الغد التي يعيشها الإسرائيليون، والتي يخشون معها على مستقبلهم. المطلوب تغيير المنطق اليميني المسيطر على اليهود في إسرائيل والذي يستدعي لديهم تهديدا وجودياً لتبرير إبادة الفلسطينيين وترحيلهم، وهذا المنطق سيتغير إذا تأكد للجمهور الإسرائيلي العام استحالة تحقيق الهدف المعلن من قبل نتنياهو وحكومته حتى لو استمرت هذه الحرب لعقود.
-----------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

We and the West