تبدو علاقتي الضرورية بقاهرة المعز علاقة مربكة؛ فهي على حد تعبير الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي (مدينة بلا قلب)، وهذا عكس طبيعتي، ورغم قسوة ودقة التعبير الذي استخدمه "حجازي" إلا أنني أجدها مسرحا كبيرا ينبض بالحيوات التي تنوعت ما بين العبث الذي لا طائل منه ولا نفع فيه، الهزل والسخرية، الكوميديا السوداء، والتراجيديا المملوءة بالصراعات اليومية بين أخيار نبلاء وأشرار حقراء؛ ففي حياة كهذه الحياة لن تقوى على العيش فيها إلا بكسر الحاجز البريختي؛ ربما وصولا لتفاعل اوجست بوال، وكأن لا يوجد فيها مكان "للمواطن الأرسطي"!.
بمجرد وصولي إلى قاهرة المعز سمعت صوت الشاعر أحمد بخيت وهو يردد: هرولت الأرض تحت الحذاء، فهرولت مسرعا إلى كنيسة "سيدة الكرمل" بوكالة البلح؛ ومع أول خطوة أخطوها بهذا المكان العتيق الذي يقع بين الحي الشعبي بولاق أبو العلا، والزمالك الحي الأكثر رقيا؛ عاد بي الزمان إلى الوراء؛ فأصالة الحي بكل ما يحتويه من ورش وحوانيت وبنايات، وشوارع وحواري وأزقة ودروب ألقت بي في تلاثينيات القرن الماضي، وجاء الطراز المعماري للكنيسة ليكمل هذا المشهد الثلاثيني؛ تلك الرحلة الزمنية التي بدأت تصاحبني منذ الصغر، وبلغت ذروتها أثناء كتابتي لمسرحية "عمارة الايموبيليا" تلك البناية العريقة التي تضم مشاهير الفن والسياسة، وعلى رأسهم الممثل الأيقوني نجيب الريحاني، وكلما اخذت هدنة فكرية لأهرب من التفكير في هذه الحقبة الذهبية ظهر ما يجدد هذا التفكير، وكان الاتصال الهاتفي الذي تلقيته من مدير المهرجان المخرج المتميز ماير مجدي، والذي دعاني لأنضم للجنة المشاهدة بمهرجان الفرنسيسكان الدولي للسلام "دورة نجيب الريحاني"؛ بمثابة تجديد علاقتي بهذا العصر الذهبي.
بمجرد ما أغلقت الهاتف، وجدت نفسي أجلس بجوار "الريحاني" في قلب شقته بالايموبيليا، احتسينا الشاي، ودعتني زوجته بديعة مصابني للعشاء بكازينو بديعة، وضحكنا وسخرنا من الحياة، وفي نهاية السهرة اتفقنا على الذهاب سويا للمهرجان، وفجأة أفقت على صوت رسائل الواتس آب؛ فها قد بدأت لينكات العروض المسرحية المطلوب مشاهدتها تصل؛ بالفعل شاهدتها وكتبت توصياتي، وهذه كانت المهمة الثانية التي ألقاها "مجدي" على عاتقي؛ فكلما انتهيت من مشاهدة عرض كتبت توصياتي وتناقشنا هاتفيا.
حملت أوراقي وأقلامي وذهبت إلى القاهرة؛ كنت قد شاهدت قرابة ال ٥٠ عرضا؛ وفي مسرح الحياة بسيدة الكرمل التقيت "مجدي" في معية الرائعة د. عبير منصور أستاذ علوم المسرح شعبة التمثيل والإخراج، والمتميز د. أحمد عامر مدرس التأليف والنقد؛ لأكمل معهما ما بدأت، وانتقلنا من المشاهدات الإلكترونية إلى المشاهدات الحية في نفس مكان المسرح القديم الذي استضاف العديد من العروض المسرحية، والأفلام الإيطالية التي بدأ تاريخ عرضها مع بدء تاريخ الكنيسة عام 1928.
حقيقة الأمر لم أصادف أي وثيقة تؤكد هواجسي! نعم تساءلت هل هذا المسرح زاره الريحاني؟ هل هذا المسرح استضاف فرقة رمسيس؟ هل صال وجال على خشبته الكسار؟ أسئلة كثيرة لا اعلم عن إجابتها شيئا؛ كل ما أعلمه ان هذا المسرح كان ينبض بالحياة في الثلاثينيات، وتوقف قلبه عن النبض مثلما توقفت في مصر أمور كثيرة، ولكنه عاد إلى الحياة مرة أخرى على يد رئيس الرهبنة الفرنسسكانية الأب مراد مجلع، ورئيس الدير رئيس المهرجان الأب فريد كمال، والذي يحمل بداخله أفكارا مغايرة مملوءة بالسلام؛ حقيقة الأمر وجدت الأب فريد فريدا في أمور كثيرة؛ مغايرا في كل شيء حتى في اختياره لمساعديه؛ تيقنت من هذا منذ ألتقيته في فناء الكنيسة؛ كنت أتجول أنا وصديقي النجم الكبير رئيس لجنة التحكيم أحمد مختار؛ فكلانا يعشق الطبيعة، وقتها كان الأب فريد عائدا من إحدى سفرياته؛ صافحنا ودارت بيننا مناقشة عابرة ختمها قائلا: انتوا بتكتبوا تاريخ، وقتها تيقنت اننى أمام إدارة واعية تجلى وعيها في اختيارها لنجيب الريحاني، وفي اعتمادها على "مجدي"، والذي وقف متأملا لجنة المشاهدة، وهي تمارس مهام عملها، وتشاهد العروض المسرحية عرضا تلو الآخر.
4 أيام كاملة هي عمر المشاهدات الحية، وما أدراك ما حدث أثناء هذه الفترة؛ شاهدت اللجنة أكثر من 70 عرضا مسرحيا لفرق واعدة؛ كل عرض له ما له وعليه ما عليه، وهذا لا ينفي أن كل عرض شاهدناه كان له مذاقه الخاص؛ كما كانت لكل فرقة رؤيتها المنفردة؛ فوجدنا أنفسنا أمام فنانين جاءوا إلى مسرح الحياة يحلمون بالحياة.
الكثير من العروض كان جيدا، ولكن العدد الأكثر كان يحتاج إلى النضج؛ بل إن هناك عروض تحتاج إلى إعادة النظر، وعروض أخرى تحتاج إلى البحث عن مخرج لأزمتها الفنية؛ خاصة وان الفقر الكتابي كان سيد الموقف، فأساسيات الكتابة كالزمان والمكان والحدث والصراع والحبكة والتصاعد الدرامي، وما إلى ذلك كان مفقودا؛ ورغم أن هذه أساسيات من الطبيعي ان يكون المؤلف ملما بها؛ فالمؤلف الجيد لابد أن يقدم نصا مسرحيا متكاملا؛ نصا مسرحيا ذو بناء درامي محكم منذ لحظة الاوفرتير، وصولا للفينال من خلال حوارات مسرحية مكثفة بعيدة كل البعد عن المط والترهل، وهو ما لم يحدث؛ إلا ما رحم ربي.
ورغم أن امتلاك هذه الأساسيات مطمئن بعض الشيء إلا أنه في نفس الوقت يمثل إشكالية كبرى؛ فالكاتب الذي يمتلكها يظن نفسه وصل بر الأمان لكنها للأسف الشديد خطوة أولى؛ الخطوة الأهم تكلم عنها الناقد الكبير عضو لجنة التحكيم جرجس شكري، والذي كان يبحث داخل العروض عن الوعي.
والوعي الذي كان يقصده "شكري" والذي تحدث عنه معي، ومع لجنة التحكيم، بل قاله في التوصيات الختامية للمهرجان؛ هو وعي الكاتب بنفسه، وبالعالم من حوله. فما هي فلسفة الكاتب في الحياة؟ ما هي وجهة نظره فيما يدور حوله؟.
انتهت المشاهدات الحية، ووجدنا أنفسنا أمام مجموعة من العروض لفرق أرادت أن تخرج من حيز فرق الهواة لتحجز لنفسها مكانا وسط فرق المحترفين، ورغم أن هذه الفرق تحتاج إلى وقت طويل كي تصل إلى الإحترافية إلا أن عروضهم كانت مبشرة؛ فالرؤى الإخراجية كانت منضبطة بنسبة كبيرة، و الإيقاع المسرحي "التمبو" محكم، والصورة السينوغرافية حيوية، والأفكار المطروحة تستحق المشاهدة والتأمل، وبعد مناقشات طويلة قامت لجنة المشاهدة بتصعيد 14 عرضا مسرحيا، و3 عروض وضُعت في قائمة الانتظار وانتهى دور اللجنة.
أعُلنت النتيجة، ومر الوقت سريعا ما بين التحضيرات والتجهيزات والنقاشات شبه اليومية بينى وبين "مجدي" وما بين حماسة الفرق، واعتذار البعض الآخر، وبعد تطبيق بعض المعايير الإدارية الخاصة بإدارة المهرجان فُتحت الساحة الخارجية لتشهد عروضا مسرحية غير تقليدية في مسابقة مسرحية موازية لتضم دورة "الريحاني" عروض العلبة الإيطالية، وعروض الفضاء الخارجي، وكلفني "مجدي" بإدارة الفضاء الخارجي، وهذه هي ثالث مهمة ألقاها على عاتقي؛ عكفت أنا وهو على اختيار الفرق؛ كنا نتحدى الصعاب نخطو فوقها برشاقة نمر؛ ومع كل يوم يمر يكبر الحلم بداخلنا؛ كنا بعيدين كل البعد عن التفكير التقليدي الذي كان يريد وضعنا ووضع المهرجان في إطار ضيق الافق؛ فكسرنا "الحاجز الرابع"، وقررنا تقديم عروض الساحة إلى جانب عروض العلبة رأسا برأس؛ لنفتح الباب أمام أكبر عدد ممكن من الفرق المسرحية لتشارك في هذا المهرجان التاريخي؛ عرضنا الأمر على رئيس لجنة التحكيم، والذي دعم الفكرة وشجعها؛ وهذا ما كنت أتوقعه، وبحت به لمدير المهرجان في مكالمة هاتفية، وقتها قلت له بوضوح تام: أستاذ أحمد مختار بيكره التقليدية والجمود؛ اعرض عليه الأمر وسترى بنفسك.
يقال من المقدمات تأتي النتائج، وان كانت مقدمات المهرجان بدأت باختيار "الريحاني" ثم لجنة مشاهدة يشار لها بالبنان، جاءت لجنة التحكيم لتكمل هذا المشهد المسرحي المبهر سواء من حيث التكامل والتناغم أو من حيث التزامها بالمهنية والحيادية حتى في لحظات الأزمة كانوا جميعا على قلب رجل واحد.
إعلان النتيجة النهائية سبقه نقاشات كثيرة؛ فلجنة التحكيم، وجدت نفسها أمام وجبة مسرحية متكاملة جعلتها تفكر كثيرا؛ فالعروض جيدة وقوية، والتنافس شديدا.
أحيانا كان يقطع الصمت د. سمير شاهين، والذي ناقش الرؤى السينوغرافية ليحدد من الفائز، ولكن "شكرى" فتح باب النقاش حول تأصيل هذا الأمر في ظل وجود جائزة للإضاءة والديكور.
كنت احتسي الشاي واستمع إلى الأب فريد وهو يتحدث عن هدف المهرجان في نشر الوعي، لا سيما بين الشباب من خلال قيم الرهبنة الفرنسسكانية الداعية للسلام والحوار؛ تلك الأسس التي أرسى دعائمها القديس فرنسيس الأسيزي مع السلطان الكامل الأيوبي، ومع آخر رشفة شاي تفتح النجمة عزة لبيب باب النقاش حول الأداء التمثيلي، وتعقب د. هبة الله سامي معارضة مرة، ومؤيدة مرات؛ مباراة نقاشية مبهرة أدارها النجم أحمد مختار بكفاءة منقطعة النظير إلى أن وصلوا أخيرا إلى ترشيحات وفائزين، وجاءت النتائج معبرة عن رؤاهم المنضبطة من ناحية، وعن طاقة التمرد المسرحي داخل فرق الهواة من ناحية أخرى؛ فعلى مدار أسبوع كامل على مسرح الحياة للآباء الفرنسيسكان، ولجنة التحكيم تشاهد عروضا مسرحية متنوعة من داخل مصر ومن خارجها؛ عروض الأردن الشقيقة إلى جانب عروض السويس والإسكندرية؛ عروض محافظة المنيا إلى جانب عروض الجزائر، والقاهرة؛ عروض الديودراما تنظر إلى العروض الاستعراضية، والعروض الاستعراضية تقوم بتشكيلاتها حول العروض الغنائية؛ والعروض الرومانسية تسحرنا بشاعريتها، والعروض التراجيدية تلقينا بإيهامها أمام التغريب البريختي؛ لينتصر في آخر الأمر عبثية (بيكت)، ويسدل الستار أمام حضور جماهيري منقطع النظير، وتعلن اللجنة فوز العرض الأردني "جودو" بالمركز الأول، والعرض المصري "كيوب اس٢" بالمركز الثاني، والعرض الجزائري "مقبرة" بالمركز الثالث.
وتتسلم الفرق الفائزة دروع التفوق والتميز في ليلة ختامية استمعنا فيها لفرقة "حبايبنا" بقيادة المايسترو ماجد سليمان بمشاركة فرقة "من كل حتة للفنون" حيث أبدع المنشد محمد شعبان، والفنانة سهر الشاعر، والفنانة ريم نجم الدين.
كما تم تكريم الراحلة أم المسرحيين د. عايدة علام، والتي كانت عضو لجنة التحكيم، ولكن وافتها المنية قبل أن تبدأ مهمتها؛ كما تم تكريم الأب الكلاسيكي للمسرح المستقل مؤسس فرقة الورشة المخرج العالمي حسن الجريتلي، ومصمم الإضاءة عز حلمي.
مسرح الحياة التابع للفرنسيسكان مساحة آمنة للحوار، ودعوة متجددة للسلام، ونافذة مسرحية جديدة وخطوة مجيدة يخطوها الفرنسيسكان على طريق المسرح المستقل؛ الذي يحتاج لمثل هذه الفرص الواعية.
-----------------------------
بقلم: مينا ناصف