05 - 12 - 2024

طارق البِشري في حوار نعيد نشره: "شيخ الأزهر" وقف مع الأقباط ضد "الخديوي" ومنع ترحيلهم إلى السّودان

طارق البِشري في حوار نعيد نشره:

الفقيه الدّستوري ونائب رئيس مجلس الدّولة:
- "عمر بن الخطّاب" أول مَن طبّق "مواثيق حقوق الإنسان"؛ ليضع قيدًا على حُكمه إنصافًا لغير المسلم !!
- الدّولة ما لم تُعطِ الفرد حقّه فلن يؤدي لها شيئًا
- كثرة التّشريعات تؤدي لازدياد المشكلات وعمليات التّحايل وتلمّس الثّغرات
- عصور الظّلام في أوروبا يقابلها لدى المسلمين عصور العقل والعِلم والفن وحقوق الإنسان
- من الخزي اعتبار طريق "رأس الرّجاء الصّالح" اكتشافًا بالنسبة لنا

(طارق عبد الفتاح سليم البشري (1 نوفمبر 1933 - 26 فبراير 2021) قاضٍ ومفكر مصري، شغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة المصري ورئيسًا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع عدة سنوات. عينه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في فبراير 2011 رئيسًا للجنة المعنية بتعديل الدستور المصري. 

تولى جده لأبيه سليم البشري، شيخ السادة المالكية في مصر - منصب شيخ الأزهر، وكان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته سنة 1951، كما أن عمه عبد العزيز البشري كان أديبا. وشقيقه هو ظافر عبد الفتاح البشري، الوزير الأسبق للدولة للتخطيط والتعاون الدولي في وزارة كمال الجنزوري الأولى. 

تخرج طارق البشري في كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1953، ثم عين في مجلس الدولة واستمر في العمل به حتى تقاعده سنة 1998 من منصب نائب أول لمجلس الدولة ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع. بدأ تحوله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967 وكانت مقالته «رحلة التجديد في التشريع الإسلامي» أول ما كتبه في هذا الاتجاه، واستمر يكتب في القانون والتاريخ والفكر. 

صدر له : الحركة السياسية في مصر 1945 - 1952 - الديمقراطية والناصرية - سعد زغلول يفاوض الاستعمار: دراسة في المفاوضات المصرية - البريطانية 20 - 1924م - المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية - الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952 - 1970 - دراسات في الديمقراطية المصرية - بين الإسلام والعروبة (جزئين)- سلسلة كتب بعنوان رئيسي «في المسألة الإسلامية المعاصرة» بدأ صدورها سنة 1996م بالعناوين التالية: ماهية المعاصرة، الحوار الإسلامي العلماني، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.

(في ذكرىٰ مولده أنشر حوارًا أجريته معه منذ نحو 27 عاما.. والغريب أنه ما يزال ينطبق علىٰ أحداث نعيشها الآن.. وتلك قيمة من قيم المفكرين الذين يجيدون قراءة الواقع واستشراف المستقبل.. وهكذا كتبتُ حين التقيته).

حينما نلوذ بمحراب القضاء ليس علينا سوىٰ الاحترام والإصغاء.. وحيثما نكون بحضرة رَجلٍ يمارس عقله التّشريع مذ نحو 45 عامًا؛ ويحمل بداخله وعيًا بالتّاريخ والفكر السّياسي والفقه والدّراسات الإسلامية والقانونية.. ساعتها علينا أن نتعلم فقه الحوار.

نُصغي للمستشار طارق البشري نائب رئيس مجلس الدّولة حين يقول باعتزاز أنّ الخليفة الرّاشد "عمر بن الخطّاب" أول من طبّق "مواثيق حقوق الإنسان" مذ قرون إنصافًا لغير المسلمين.. وأنّ دستورنا الحالي غير كفيل بإعادة بناء الشّخصية المسلمة؛ لأنّ أهل الشّورىٰ أغلبهم عمال وفلاحون.

وأضاف أنّ "شيخ الأزهر" وقف مع الأقباط ضد "خديوي مصر" ومنع ترحيلهم إلىٰ السّودان.. وأنّ عصور الظّلام في أوروبا يقابلها لدىٰ المسلمين عصور العقل والعلم والفن وحقوق الإنسان.. وأنّ الدّولة ما لم تُعطِ الفرد حقّه فلن يؤدي لها شيئًا.

يُدلي المستشار برأيه في النّخبة المثقّفة؛ وفي كيفية إعادة كتابة تاريخ أمتنا؛ وفي المصطلحات العصرية والرّجعية؛ كما يدعو المرأة لتولي القضاء في فريق عمل واحد.. ويرىٰ أنّه من العار اعتبار كشف "طريق رأس الرّجاء الصّالح" اكتشاف لنا !!

* قلتُ له: الشّخصيّة العربيّة والإسلاميّة تعاني من أزمات ومشكلات أوقفت مسيرتها؛ وجعلتها تقف موقف المتفرج.. وإذا كان التّقصير يقع علىٰ جهاتٍ بعينها إلا أن المؤسّسات التّربوية تحمل العبء الأكبر؛ خاصّةً وأنّه المنوط بها صياغة الفرد؛ فكيف نعيد بناء الشّخصيّة المسلمة ؟

- قبل أن أُجيب؛ أُحب أولًا أن أشير إلىٰ أنّ هناك صلة بين الحق والواجب في المفهوم الإسلاميّ، تتضح في أنّ الإسلام كما أمر الإنسان بأن يؤدّي واجباته فإنّه كفَل حقوقه، وطالبه بأن يحافظ علىٰ منهج الله، ولأنّا نعيش في عصر مليء بالمناهج؛ وبدُعاةٍ يتلقفوننا بمبادئ زائفة وشعارات كاذبة.. علينا أن نحذر من كل هذا، بل ونحذر من حكومات عالَمنا المتخلف، التي كلما أرادت أن تعالج أمرًا عالجته عن طريق التّشريع؛ مع أن كثرة التّشريعات تؤدي لازدياد المشكلات وازدياد عمليات التحايل عليها وتلمّس ثغراتها.

كما أنّ حمل النّاس علىٰ منهج الله لا يكون بالتّشريع وحده إذا لم يواكب ذلك التوعية بها والإعداد لها قبل إصدارها وتنفيذها؛ وذلك بتربية قومية ونوعية للمشرّع والطّالب والقاضي.

ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فلم يكن -صلّىٰ الله عليه وسلّم- مُشرّعًا فحسب؛ ولم يبلّغ التّشريعات عن ربّه فحسب؛ فقد جاءت التّشريعات في مرحلة متأخرة، وإنما كان مُربيًا وداعيًا إلىٰ الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ والإسلام يُعلي من شأن الحقوق والواجبات.. أمّا إعلاء شأن الواجبات فربما يعود إلىٰ تراخي النّاس في أدائها مع تمسّكهم الشّديد بحقوقهم، ولكنّ الحقّ دائمًا هو الجانب الآخر للواجب؛ وما لم نُعطِ الفرد حقوقه فلن يؤدّي للدولة واجباته.

أمّا بناء الشّخصية المسلمة؛ فأقول أنّ دستورنا الحالي غير كفيل بإعادة البناء علىٰ الوجه الصّحيح، لأنّ "أهل الشّورى" فيه أغلبهم عمال وفلاحون.. فهل هذا يتفق مع الشّريعة ومنهج الله ؟! لابد من إعادة البناء وإن طال الأمد؛ سواء في مدارسنا وجامعاتنا أو عن طريق وسائل الإعلام، نبني بالحُب في الله ورسوله وبكل  من يؤمن بمنهج الإسلام ويعتنق فضائله؛ وبكل من يتقن عمله محتسبًا إياه عند الله، وبالكره الشّديد للنفاق والظّلم والخواء والسّلبية والفسوق والإعراض عن قيد الدّين؛ فالإيمان حُبٌّ وكُرْه، فكيف ننتظر من الدّولة أن تجعلنا نُحب ونَكره ؟! ليبدأ كلٌّ منّا في أسرته ومسجده ومدرسته وديوان عمله.

* سبق الإسلام جميع مواثيق حقوق الإنسان التي تؤكّد مبدأه؛ والفاروق "عمر بن الخطّاب" أكّد هذا السّبق بقوله: "متى استعبدتم النّاس وقد خلقتهم أُمهاتهم أحرارًا".. فما تعليقكم ؟

- المدهش أنّ أول نصٍّ في "ميثاق حقوق الإنسان" في العالم الغربيّ جاء بعد ثورات وسلسلة من الكفاح والنّضال؛ وتحت هذا الشّعار أُريقت بحورٌ من الدّماء، أمّا حين قالها "عمر بن الخطاب" قالها وهو رئيس دولة كبرىٰ، لها سيطرة وهيمنة، قالها ليضع قيدًا على حُكمه ونظامه ودولته إنصافًا لغير المسلم!!

ورغم ذلك نسمع دائمًا بل ونطالب بتطبيق مواثيق حقوق الإنسان التي تمّت في إطار الخبرة الغربية؛ حيث ربطت الحقوق بالدّولة القومية التي تتكون من شعب متجانس يتحدث لغة واحدة ويعيش في إقليم واحد؛ بمعنىٰ أنّ الأفراد من غير مواطنيها تعدهم أجانب؛ أي لا توجد أقليات في هذه الدّول (أوروبا الغربيّة وأمريكا الشّمالية).

ومن هنا نجد صعوبة في تطبيق هذه المواثيق خارج دولها، فلا نستطيع اختبار مصداقية هذه الحقوق في الدّول في إطار الجماعة السّياسية الواحدة.. ولا في الدّول التي بها أقليات.

وهنا لا نستطيع أن ننسى كيف وقف الشّيخ "الباجوري" شيخ الجامع الأزهر في وجه "عباس الأول" خديوي مصر آنذاك عندما اختلف مع الأقباط وأراد ترحيلهم إلىٰ السّودان؛ فرفض "شيخ الأزهر" بشدّة؛ كما رفض مفتي الدّولة العثمانية محاولة السّلطان "سليم الأول" القضاء على الأقليات، كل هذا لأن الأسلام من خلال "عقْد الذّمة" يحمي الأقليات داخل مجتمعاته حتىٰ من بطش بعض الحكّام، والتّاريخ مليء بالأحداث الدّالة علىٰ ذلك.

* تمارسون التّشريع مذ نحو 45 عامًا؛ فهل تعتقدون أنّ هناك أوجه اتفاق بين القاضي والمفتي؛ أو بين القضاء والإفتاء ؟

- لأوضح إجابتي أسوق لك هذه الواقعة؛ يذكُر "أبو عبيدة القاسم بن سلّام" في كتابه "الأموال": أن الخليفة "معاوية" كان قد صالح أهل "قبرص"؛ علىٰ وضعً يكونون فيه أهل ذمّة للمسلمين والرّوم (أي على الحياد بالمعنى الحديث)؛ فلمّا جاء الخليفة "عبد الملك" رأىٰ من أفعال أهل "قبرص" ما اعتبره نكتًا لعهدهم؛ فكتب لكبار الفقهاء يشاورهم في محاربة أهل تلك الجزيرة؛ وهنا أشار بعضهم -وكانوا أكثرية- بالكفِّ عن أهل "قبرص" والوفاء معهم رغم غدرهم، بينما أشار البعض الآخر -وكانوا أقلية- بمحاربتهم.

الواقعة في حد ذاتها لا تهمنا؛بقدر ما يهمنا كيف تكون الفتوى أو الرأي الشّرعي في مسألةٍ ما، وكيفية وصول القاضي إلىٰ حُكمه في مسالة محدّدة، فنحن أمام واقعة محدّدة طلب فيها رأي العديد من الفقهاء، كلهم تناولوها وقت حدوثها؛ وجميعهم نهجوا منهجًا واحدًا من حيث التّعرف على الواقعة؛ ثمّ إيراد النّص الشّرعي الذي ينزله عليها طبقًا لرؤيته وتصوره لها، ثمّ استخلاص الحكم الشّرعيّ؛ وهذا عين ما يفعله القضاة والمفتيون في عملنا القضائي والإفتائي، ولقد جاء اختلافهم في الحُكم مردودًا لاختلافهم في فهم النّص ذاته، وجاء صنيعهم محقّقًا لما جاء في الأثر: "الحُكم علىٰ الشّيء فرعٌ من تصوره".

* ولأنّا ما زلنا في محراب القضاء؛ فهل يجوز للمرأة تولي القضاء ؟

- الفقه الإسلاميّ -تقريبًا- لم يجز تولي المرأة القضاءَ إلا "المذهب الحنفيّ" الذي يجيز في بعض الأمور دون الأخرى؛ فلم يُجز توليتها القضاء الجنائيّ أو قضاء الحدود. كما يجوز لها أن تتولىٰ القضاء في فريق عملٍ واحدٍ؛ وهذه نظرية جديدة للولاية العامّة؛ حيث لا تصبح منوطة بفردٍ واحد؛ وخير مثال من الواقع علىٰ ذلك هو مجلس الشّعب، فالولاية هنا لمجموع المجلس أو غالبيته وليس لأحد أعضائه.

(تاريخنا محتل)

* أعلمُ أنّكم تهتمون بتجديد المصطلحات؛ منها مصطلحي "العصري/ والرّجعي"؛ فماذا يعني هذان اللفظان من وجهة نظركم ؟

- باهتمامً شديد يقول ضيفي: تحديد مفهزمنا من كلمة "العصر" هام جدًّا للوصول لما نسميه "الاستقلال التّاريخيّ"؛ لأنني أتصور أن تاريخنا وخصوصًا الحديث منه مغزوٍّ ومحتلٍّ، والاحتلال التّاريخيّ لنا يمتد إلىٰ القرون الوسطى.

نعلمُ أنّ العصر يعني الدّهر أو الزّمن؛ وعندما نقول "روح العصر" إنّما نشير إلىٰ السّمة الغالبة علىٰ أوضاع المرحلة التّاريخية المعيشة؛ ولفظ "عصريّ" يعني أنّا متلائمون مع الأوضاع الزّمنية الحالية.

وفي صباي كان لفظ "رجعيّ" يعني التّمسك بالعادات والتقاليد المنحدرة من السّلف؛ ثمّ أصبح يُطلق علىٰ قوىٰ الاستبداد السّياسيّ، ومن هنا أصبح لفظ رجعيّ مضاد للفظ "تقدّميّ"، وليس للفظ "عصريّ" كما كان المتوقَّع !!

ثمّ أصبح لفظ "عصريّ" -بمرور الوقت- يضم وحدة جامعة تضم كل العصريين جميعًا في العالم أجمع، وصار "العصريّ" يقابله "المتخلف" كطرفيّ صراع اُمميّ، وقد قسّم هذا المعنى العالَم إلى فريقين؛ أحدهما يضم الأسيويين والأفريقيين ضد الثّاني الذي يضم الأوروبيين والأمريكيين، والفارق.. أنّ الفريق الأول "متخلفون" والثّاني "معاصرون"؛ فكيف سمح الإنسان لنفسه أن يكون شطرين ؟! شطر يرىٰ نفسه محمولًا مع المستقبل؛ وشطر آخر بقي مع مخلفات التّاريخ !!

لكن مع انتصار حركات التّحرر الوطنيّ علىٰ مدى الخمسينيات وظهور دول وحكومات الاستقلال الوطنيّ؛ومع الشّعور بالنّشوة والانتصار؛ بدا لنا أنّ مرحلة من مراحل تاريخ البشر زالت وانتهت، وأنّ مهتنا الجديدة هي اللحاق بالرّكْب وبناء مجتمعاتنا؛ ومن هنا تحول وعينا -بغير تحفظٍ كبير منّا- من موقف المواجهة والتّعامل مع مستعمرنا إلىٰ موقف التّتالي والتّعاقب، فظهر مصطلح الدّول المتقدمة والدّول المتخلفة !! ثمّ خُفّف اللفظ وصار "الدّول النّامية" أو التي علىٰ طريق النّمو.. وبهذا المنظور أصبح التّصنيف يتعلق بـ: "معاصرٍ ومتخلّفٍ"؛ بدلًا من: "غازٍ ومغزوٍ" !!

* إلىٰ متى يظل الحُكم علىٰ حضارتنا وتاريخنا بمعايير غربية.. لا سيما وأنّ النّخبة المثقفة في أمّتنا ترى أنّ مستقبلنا هو حاضر الغرب؛ وحاضرنا هو ماضينا ؟!

- علامات الأسى تكسو وجه المستشار "البشري" وهو يقول: لقد اُلحق زماننا بالزّمان الأوروبي والأمريكي؛ دون أن يُقال أنّه التحاق أو تبعية أسيوية إفريقية؛ أو أنّ هناك ثمّة متبوعة أوروبية أمريكية، وصار من المسلمات علىٰ ألسنة المفكرين وأقلامهم أن يتكلموا عن حضارة القرن العشرين وعن العصر الحديث؛ وصرنا نصدق من أمر أنفسنا في بلادنا أننا في عصرهم !! وهذا الأمر أحدث تصّدعًا عميقًا في وعينا الحضاريّ وحسابنا الزّمنيّ.

أمّا عن وعينا الحضاريّ فصرنا مثلهم في التّصور المثاليّ رغم أننا غيرهم في المنظور الواقعيّ !! كما سقطنا نحن بين حاضرهم وحاضرنا؛ وأصبحنا في حالة من اللاإرادية والعبث؛ رغم أنّ المواكبة الزّمنية لا تدل على وحدة العصر بالمعنى المقصود هنا وهو وحدة الظّروف والأوضاع التي تحيط بالجماعة، وإذا أردنا فك الاشتباك بين  التي يحياها النّاس في عالم اليوم لتعين علينا أن ننظر في عالمنا العربي والإسلامي لنرىٰ الملمح العام الذي يميز جماعتنا في المرحلة التّاريخية المعيشة لنصل لكلمةٍ سواء في هذا الشّأن.

وإذا حاولنا رصد بداية تاريخ التدخل الأوروبيّ في شؤوننا سواء أسميناه غزوًا أو فرضًا للهيمنة والسيادة؛ فالمتفق أنّها بدأت عام 1798 مع حملة بونابرت على مصر؛ وقد تكون بدأت قبل ذلك بربع قرن؛ عندما وقّع السلّطان "عبد الحميد الأول" في 1774 تلك المعاهدة الذليلة؛ التي أباحت لـ "قيصر روسيا" التّخل في شؤون "تركيا".

وأيضًا كان تاريخ "الاحتلال الأوروربيّ" فقد كان علامة علىٰ الغزو والمقاومة في آن، وليُسمِّ الغرب عصره بعصر "الذّرة أو الثّورة الصّناعية".. أمّا نحن فنسميه عصر "الاستعمار ومقاومته"، فكل أحداث تاريخنا المعاصر لا تُفسّر ولا تُفهَم إلا بالنّظر لهذا الملمح العام، وتلك هي الصّبغة المهيمنة علىٰ كل القضايا والأحداث، وبها نستطيع أن نفهم كل شيءٍ في واقعنا من حيث الانقسامات والتّوحدات والثّورات والانتقاضات وقضايا الاقتصاد والتّصنيع والزّراعة ومسائل السّلم والحرب، ونُظم الحُكم وبناء المؤسّسات وتنظيم الجيوش والفكر والثّقافة والتّعليم.. بل ونستطيع أن نحكم علىٰ كل هذه الأمور بالصّحة أو بالفساد.

* أرجو مزيدًا من التّوضيح.

- بتوضيحٍ أكثر أقول: لمّا كان العصر هو عصر الحضارة الأوروبية والأمريكية؛ فقد صرنا نُقسّم تاريخنا وفقًا لأقسام التّاريخ الأوروبيّ باعتبارها أقسامًا لتاريخ العالَم !! رغم أننا إذا نظرنا لتاريخنا فسنجد صورًا مختلفة لمراحله، فإذا كان "العصر الأوروبي الوسيط" ينتهي بسقوط أوروبا في أيدي "البرابرة"؛ ثم يبدأ تاريخهم بسقوط "القسطنطينية" في أيدي العثمانيين المسلمين؛ فإننا في المقابل نجد أن "عصر الرّسالة المحمدية" و"صدْر الإسلام" هو بعينه ما يُسمّى في أوروبا بـ "عصور الظّلام"، وهو يُمثّل عندنا عصر انتصار الإيمان والعقل والتّحضّر في السّياسة والنّظم والوفاء وحقوق الإنسان وتقدّم العلوم والفنون. والذي اعتبروه "غصر النّكبة" لسقوط " القسطنطينية".

أمّا "العصر الوسيط" في أوروبا والذي اعتبروه "عصر النّكبة" لسقوط "القسطنطينية" فهو ذاته الحدث الذي ينظر إليه التّاريخ الإسلاميّ بكثير من الإعزاز، ثمّ يأتي القرنان السّادس عشر والسّابع عشر؛ وهما ما يسميان في أوروبا بـ "عصر النّهضة".. يقابله عندنا عهد الخمول والجمود والظّلام.

وأحبُّ أن أضيف أننا لا نعترض على التّاريخ الأوروبي بتقسيماته؛ فهي صادقة ومتّسقة مع وقائعه، ولكن من غير المعقول أن نتبنّى نحن هذه التّقسيمات ونستخدمها كأدوات في تحديد واقعنا والحُكم عليه، كما أنّه من غير الصّائب ولا الصّادق أن نعتبر معايير التّاريخ الأوروبيّ هو معايير تاريخ العالَم أجمع.

(الآفات الثّلاث)

والأمر لا يقف عند حدود التّقسيمات العامّة فقط؛ وإنما يصل إلىٰ صميم أدوات التّحليل للنّظم والمؤسسات والأفكار والأحداث، فحتّىٰ مفهوم "النّظام الإقطاعيّ" الذي ظهر في بلادنا يختلف عن "عصر الإقطاع" في أوروبا.

والذي يثير العجب أنّه حتى المفهوم الغربيّ لـ "الدّين"؛ صار هو المفهوم العام لدينا؛ خاصّة من ناحية آثاره الاجتماعية، إذ صار مُستقى بالأساس من التّجربة "البابوية الكاثوليكية" !! حتىٰ أنّ الاكتشافات الأوروبية لطريق "رأس الرّجاء الصّالح" من العار أن تُعد اكتشافًا بالنسبة لنا، لأنه من الخزي أن نعتبر أنفسنا –كأفارقة- غير موجودين في "الوعي البشريّ" إلا يوم أن رآنا "الرَّجل الأبيض".. كأننا موضوع مُدرَك ولسنا ذاتًا واعية !!

* في حواراتٍ سابقة قلتم أنّ التّجزئة والتّبعية والازدواج الحضاريّ آفات ثلاث اجتمعت علينا هذه الأيام.. فكيف ذلك ؟

- يأخذ مُحدّثي نفسًا عميقًا ثمّ يقول: كما قلتُ آنفًا فإنّ إلحاق عصرنا بعصر غيرنا نتج عنه تفتيت وتفسيخ لتاريخنا، والغريب أننا لا نشعر بالمعاناة من هذا الأمر !! رغم أنّ هذا التّفتيت أقام لدينا أقطارًا شتّى؛ كل منها وحدة سياسية منفصلة، وارتّدّت هذه الأقطار إلى تاريخ أسلافها تُقسّمه وتُقطّعه حسب أهوائها !!

كما انفصلت وقائع كل قطر عربيّ عن القطر الآخر؛ والأخطر من ذلك تضارب نظرة كل قُطر لأحداث المشتركة بينه وبين الأقطار الأخرىٰ التي يضمّها جامع العروبة والإسلام.

أبسط مثال علىٰ ذلك؛ حينما نقرأ كتابات مؤرخين مصريين عن حروب "محمد عليٰ" و"إسماعيل" في "السّودان"؛ ثمّ نقرأ كتابات مؤرخي "السّودان"؛ وكذلك الحال بالنسبة لمؤرخي "الشّام" و"مصر" عندما يكتب كل منهم عن حروب "محمد علي" وحُكمه في "الشّام".. ثمّ اختلاف النّظرة إلى "الثّورة العرابية" عام 1916 بين المؤرخين الإسلاميين والقوميين.

وبسبب انفصالنا وانفصال ذواتنا والتحاقنا برباط التّبعية مع الغرب؛ صار كل ما هو عامل خارجيّ كـ "الحملة الفرنسيّة" على مصر صار يُعامَل -أحيانًا- كما لو كان عاملًا داخليًّا؛ يُنظَر إليه كمساهم أو كباعث علىٰ النّهضة والتّقدم !!

* يتردّد بين الحين والآخر عبارة: "إعادة كتابة تاريخنا"؛ فكيف ترىٰ هذه العبارة من وجهة نظركم ؟

- هناك نقطة هامّة لابد من إثارتها؛ تتعلق بتقسيم التّاريخ الدّاخليّ وفقًا للقوى السّياسية المختلفة، بمعنىٰ أنّ التّاريخ اليوم داخل كل قطر يُكتب على أنّه تاريخ قوىٰ سياسية، فهناك مَن يكتب التّاريخ الإسلاميّ على أنّه تاريخ "المعتزلة" مثلًا !! وأصبحت كل القوىٰ السّياسية والاجتماعية تقتطع من التّاريخ القديم (إقليميًّا وموضوعيًّا) حسْب هواها.. ومن هنا تنعكس الصّراعات الحالية علىٰ التّاريخ بهذا المعنى، دون إدراك أنّ التّاريخ مِلكٌ شائعٌ، ولابد أن ننظر إليه باعتبار كل ما فيه من أوزار وإيجابيات تتعلق بالجماعة ككل بدون تقسيمها إلىٰ طبقات وفئات متضارِبة
----------------------------------
حاورته (عام 1997): حورية عبيدة