10 - 11 - 2024

صباحيات | يحيى السنوار وما بعده

صباحيات | يحيى السنوار وما بعده

قال صديق لي إنه ينتظر قراءة مقال أكتبه عما بعد مقتل يحيى السنوار. ومعذرة لإصراري على استخدام لغة محايدة غير مشحونة في كل ما اكتبه عن صراعنا مع إسرائيل، فلم أقل استشهاد السنوار، ومعذرة مرة أخرى للإصرار على النظرة النقدية لشخصيات هي أيقونات لدى الجماهير العريضة في فلسطين وفي العالم العربي، فالسعي وراء الحقيقة شرطه الأساسي التحرر من أسر الصور النمطية والعبارات التي نرددها دون مراجعة لما تعنيه، ومن هذه التعبيرات التي راجت تعبير "الصبر الاستراتيجي". ولم نسأل أنفسنا هل كان هجوم السابع من أكتوبر 2023 تطبيقا لهذا الصبر الاستراتيجي، وهل استعجال الخطاب الحمساوي وخطاب أنصارها في أنحاء العالم بإعلان الانتصار وهزيمة إسرائيل في طوفان الأقصى قبل أن يبدأ الرد الإسرائيلي أمر صائب.

أجبت الصديق بأنني منشغل الآن بكتابة مقال عن حسابات التصعيد مع إيران، ولا اعتزم الكتابة عن يحيى السنوار. أحد الأسباب لذلك هو قلة المعلومات عن السنوار وشخصيته والملابسات التي صاحبت صعوده لقمة حماس.. في مقالتي التي كتبتها عن حرب غزة 2023، قدمت قدرا من التحليل المستند إلى ما حصلته من دراستي للعلوم السياسية والاستراتيجية لتقديم نقداً أراه ضرورياً، إذا ما أردنا تقويما وإصلاحاً، وهو أمر ينهى عنه كثير من الناس الذين تربوا في ظل ثقافة أن "صوتاً لا يعلو على صوت المعركة"، وأنه لا يجوز انتقاد المقاومة. واختزلت كثير من الكتابات عن يحيى السنوار، الذي ذاع صيته في أرجاء المعمورة، الجوانب المعقدة والمركبة في شخصيته التي تشكلت في سنوات نشأته وتجربته الممتدة والثرية، في وجه واحد فقط هو "وجه المقاوم".

لكن قررت الكتابة بعد أن قرأت هذا المقال المنشور على موقع "أستبِن"، والذي أضاف إلى عنوانه عبارة "طريقك لمعرفة الحقيقة"، وهو موقع موريتاني، لكاتبه إبراهيم الدويري وهو كاتب متابع مدقق لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وقياداتها، وهو ما يبدو من سجل مقالاته المنشورة في كثير من المنصات العربية، من بينها الجزيرة ومدونة والعرب ومنصات أخرى. ورغم تحيزه الواضح لحماس ومعرفته الواسعة بأدق التفاصيل في الحركة، إلا أن سعيه للحقيقة وحبه لها أكبر. قدم الدويري تحليلاً مهما ومفتاحا أساسياً لفهم شخصية يحيى السنوار، الذي كان موضوعاً تحت المجهر الإسرائيلي منذ إطلاق سراحه بموجب صفقة مبادلة الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط بمئات الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

استخدم الدويري كلمة "الخاوة"، والتي تعني الإرغام أو القسر أو القوة باللهجة الفلسطينية، كمفتاح لفهم شخصية السنوار، في مقال طويل يتطلب صبراً على قراءته بتمعن وشمول (رابط للمقال). ونظراً لطول المقال أقدم عرضاً موجزاً له، توقفت فيه عند بعض العبارات في محاولة للفهم، ليس فقط لفهم شخصية السنوار وإنما لفهم ما حدث في السابع من أكتوبر وفهم إدارة قيادة حماس للمعركة المستمرة منذ أكثر من عام مع إسرائيل.  

من العبارات التي توقفت عندها في المقال ما قاله الكاتب عن تعزز اقتناع السنوار بأن تغيير هذا الواقع لا يمكن بغير القوة، سواء فيما يخص مفاوضات المصالحة مع السلطة الفلسطينية، أو التعامل مع العدو، وما ذهب إليه من أن "نهج السنوار هو أصدق تعبير عن المقاومة"، المؤسس على الإيمان بأن "ما أُخذ بالقوة لن يُسترد إلا بالقوة"، وهو إيمان يسد السبل أمام الوسائل الأخرى للوصول إلى الهدف، وهو بالفعل تعبير صادق عن منطق "الخاوة". لكن علينا أن نتساءل، ما الذي تم استرداده أو ما الذي يتوقع استرداده بالقوة أو قسراً في الأمد المنظور، ومقارنه بما تم الحصول عليه بوسائل أخرى غير "الخاوة". قد اتفق مع الكاتب في أن الأيام أثبتت للسنوار موطئًا "يغيظ" أعداءه. 

واتوقف هنا عند كلمة "يغيظ" بمعانيها المختلفة والتي تعطي لدى الطرف الأضعف في معادلة القوة إحساساً بالارتياح النفسي بغض النظر عن الثمن المدفوع نتيجة لاستفزاز العدو. لا نناقش هنا جدوى المقاومة فتلك بديهة لا مجال لإنكارها، وإنما ما نناقشه هو جدوى الوسائل الأخرى"، حين تعجز المقاومة عن تحقيق الأهداف المرجوة القريبة والبعيدة، وعلينا أن نسأل هل كسر السنوار حقاً "حاجز الخيال"، هل المشاهد التي تم تصويرها في هجوم طوفان الأقصى التي بثت في الجماهير المغلوبة على أمرها، في العالم العربي من الخليج إلى المحيط، إحساسا بالنشوة، كسرا لحاجز الخيال من شأنه تغيير المعادلة. 

هنا استحضر من المقال اقتباسا مهما للكاتب "كل قوة تحمل في جوهرها عنصر فنائها؛ فحين تتولد المقاومة، تبدو كما لو كانت التصرف الوحيد المتناسب مع هذه القوة والمتصالح مع حركة التاريخ". هذه العبارة التي كتبها في مواجهة قوة المحتل تنطبق أيضاً على حركات المقاومة، فكثيرا ما ننسى في غمرة الحماس لمقاومة الظلم والعدوان، أن للعدو حساباته وأدواته وتحالفاته وردود أفعاله أيضاً، وأن ما يسمى بحركة التاريخ ليست قوة عمياء، وإنما هو محصلة لصراع إرادات بصيرة. المقال ملئ بمواقف تكشف عن أبعاد معقدة ومركبة في شخصية السنوار التي تشكلت في المخيم، وفي عتمة السجن، وفي غزة لاحقاً، والتي ترجمت فعل المقاومة لمقاومة أساليب الاحتلال التي تمسك بأدوات التحكم في الزمان والمكان، وتحدد سير الحياة وفق قواعد الانضباط والعقاب في السجن، والتي تشكل إما شخصيات انسحقت أو شخصيات عنيدة في دفاعاتها، وكان السنوار من النوع الأخير. 

في الحقيقة يصعب إصدار حكم نهائي من رسائله، لكن ثمة عبارة منسوبة للسنوار تسلط الضوء على إشكالية كبرى في تقييم هجوم السابع من أكتوبر والغاية منه، وما إذا كانت هذه الغاية تبرر الثمن المدفوع من دماء الفلسطينيين في قطاع غزة وتدمير حياتهم. نسب للسنوار قوله رداً على المتبرمين من اتباع ما عرف بالصبر الاستراتيجي، "اصبروا، سنوقف الأرض على رجل واحدة".  وهنا نتساءل هل كان الهدف من هجوم السابع من أكتوبر أن يقف العالم على رجل واحدة، وما المكسب الذي من الممكن أن يعود على القضية الفلسطينية نتيجة لذلك؟

لقد ركزت الروايات والشهادات الإسرائيلية عند تحليلها لشخصية السنوار على استهداف المتعاونين الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي وهناك كتاب كامل في هذا الشأن، والتي صورت التعامل مع المتعاونين على أنه إجراءات استثنائية خارج القانون، وهو مخالف للواقع كما يصفه زاهر جبارين، رفيق السنوار في السجن وعضو المكتب السياسي لحركة حماس، وأحد مؤسسي كتائب القسام، الذي يوضح أن الادعاءات الإسرائيلية حول تعامل المقاومة، أو جهاز "مجد"، جهاز المخابرات التابع لحماس والمسؤول عن مكافحة التجسس، مع الذين يُشك في كونهم عملاء للاحتلال أبعد ما تكون عن الحقيقة. لأن الجهاز لم يكن يعمل بشكل فردي، ولم يكن التعامل مع أي مشتبه فيه يؤخذ بقرار منفرد، وإذا حدث خطأ، يُحاسب المخطئ ويُعاقب. "هناك عشر خطوات وأحيانًا اثنتي عشرة خطوة للتحقق من كون الشخص المشتبه فيه متعاونًا مع الاحتلال، وبعدها يُجرى تحقيق من خلال جهاز محترف".

حاصر حصارك

إن النقطة الجوهرية في شخصية السنوار، كما قدمها المقال تلخص ما قاله الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في قصيدة سقط القناع " حاصِرْ حصَارَكَ... لا مفرُّ"، وأن هذا هو النجاح الشخصي الذي حققه السنوار. والكاتب محق في استنتاجه أن السنوار كان يتمتع بحالة عالية من الاستقرار النفسي لسجين محكوم عليه بمؤبدات؛ واستطاع أن يحاصر سجانيه على وجه من الوجوه، وأن يسيطر على رؤيتهم له، بقدرة ملفتة للنظر، ارتبطت بنظام نفسي تبناه سجناء المقاومة، جعلهم، على نحو ما، يقدمون استجابات نوعية وغير معتادة لدى غيرهم من السجناء الجنائيين أمام سجانيهم وأدواتهم. أهمها قدرة السجين المقاوم على امتصاص الضغوط والأحداث القاسية التي تتوالى عليه، دون أن تنجم عنها آثار نفسية عميقة. وهي مسألة يمكن استنتاجها من تجربة مناضل مثل نلسون مانديلا، لكن علينا نقارن بين الدرس استلهمه مانديلا من تجربته في الزنزانة في سجون نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وبين الدرس الذي استخلصه السنوار من تجربته في السجون الإسرائيلية ورؤية كل منها لمفهوم "القوة"، ومقارنة الرؤيتين برؤية فاتسلاف هافل أحد زعماء ربيع براغ في عام 1968، وأول رئيس لجمهورية تشيكوسلوفاكيا بعد سقوط النظام الشيوعي في كتاب يلخص تجربته السياسية عنوانه في ترجمته العربية "قوة المستضعفين". 

بالتأكيد أنه يتعين على الفصائل الفلسطينية دراسة تجربة السنوار الثرية واستلهام الدروس والعبر منها، بغرض الوقوف على الأخطاء ومعرفة مكامن الضعف وكيف يمكن تعويضها، وهنا من الضروري طرح السؤال عن جوانب الضعف والخلل في استراتيجية "تجذير التحدي" وما ترتب علبها من تحولات في إعادة البناء التنظيمي لحركة حماس مع صعود السنوار إلى قمة الهرم التنظيمي في قيادة الحركة، وهل كان إصلاح الهيكل الانتخابي في الحركة، وضم قرابة 30 ألفاً من أفراد كتائب القسام، في معادلة انتخابات المكتب السياسي، والذي أنهى الفصل بين السياسي والعسكري في الحركة، خطوة موفقة من حيث التوقيت والدلالة؟ 

من الصعب استنتاج أن التجربة التي مر بها السنوار ومر بها غيره من ملايين الفلسطينيين ستقود إلى شخصيات مماثلة للسنوار، بل إن الكاتب يشير إلى أنه ليس بإمكاننا التكهن بسهولة بمصير شخص بعينه إذا ما نشأ في المخيم أو قضى أوقاتًا في السجن، فالمخيم قد يجمع الشيء ونقيضه، والفكرة وعكسها، وجمع بالفعل بين يحيى السنوار ومحمد دحلان، بل إن شخصية السنوار نفسها تعبر عن تناقض يتعين الوقوف عنده عند رسم ملامح لمستقبل المقاومة الفلسطينية وهي تعيد بناء ذاتها. أسوق هنا اقتباسا نقله كاتب المقال عن طارق حمود، أستاذ العلوم السياسية في جامعة لوسيل بقطر، والباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة: "صنع الميدان شخصيتين للسنوار، الأولى براجماتية، لكونه من أكثر الأعضاء احتكاكاً بالواقع، واحتياجاته، وإكراهاته، وكذلك لقربه من الفصائل الأخرى قيادة وأعضاءً"، أما الشخصية الأخرى التي صنعها الميدان من السنوار، فهي الشخصية الأمنية التي ترى العالم كله في ميدان القتال، وقد لا تستطيع الفكاك من هذه النظرة، وهو ما يعني أنه في الوقت الذي قد تكون فيه حسابات السنوار الميدانية ذات دقة هائلة، فإن حساباته السياسية التي ترتبط بموازين القوى الإقليمية والدولية قد تكون محدودة، أو ليست على نفس الدقة، في أفضل الأحوال.

هذا الرأي يدعم الطرح الذي أدافع عنه منذ مقالاتي الأولى عن ضرورة التوصل إلى تفاهم عبر الحوار بين منطق المقاومة المسلحة ومنطق المقاومة "اللاعنفية" من جهة وبين منطق التسوية السياسية والعمل السياسي من جهة أخرى. وعبر السنوار في مسيرته عن منطقي المقاومة، لكن إقصاء المنطق السياسي كانت له مخاطره الكبيرة التي يتعين علينا دراستها وتحليلها. لقد رحل السنوار ومن قبله إسماعيل هنية، ومن المبكر معرفة الاتجاه الذي ستمضي فيه الحركة، الأمر المؤكد والحقيقة التي يعرفها العالم ويسعي نتنياهو مكابرا لتغييرها أن المقاومة الفلسطينية ستبقى، مع تغير المسمى من فتح إلى الجبهتين الشعبية والديمقراطية ومن حماس إلى الجهاد الإسلامي أو ما قد يظهر في المستقبل طالما استمر الصراع بلا حل سياسي.

لقد أثبتت تجربة الثمانين عاما منذ قيام إسرائيل أنه لا يمكن لأي من طرفي الصراع تحقيق حلمه في القضاء على الطرف الآخر، ولم يعد أمامها وأمام العالم سوى الدفع في اتجاه مسار آخر لإنهاء الصراع. إن قول السنوار إنه إذا أرادت إسرائيل أن تكون الحرب دينية فنحن مستعدون قول جانبه الصواب، ذلك أن قبول المنطق الذي يسعى العدو لفرضه هو إعلان للهزيمة، قبل أن تبدأ المعركة. ربما كان هذا الدرس الذي لم يتعلمه السنوار من الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، ولا من خبرة فتح النضالية التي لا يمكن إنكارها. لقد وضع السنوار بهذا التصريح المقاومة الفلسطينية وحركة حماس في دائرة رد الفعل، إن رفض منطق الحرب الدينية نقطة قوة لصالح القضية الفلسطينية وعندما يتبناه العدو فهو يضع نفسه على الطريق للهزيمة، وهذا ما تدركه جيدا النخبة في إسرائيل، وربما يدركه نتنياهو لكنه سجين أيديولوجيته، وسجين فساده الأخلاقي والسياسي، الذي جعله رهينة بأيدي أقلية من ورثة مئير كاهانا.
------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

سباق على ترتيب الأوراق في الشرق الأوسط بعد فوز ترامب