نقول نحن المصريين إذا أردنا أن نذكر إنسانًا قد تجاوز القصد فى الأمور فأفرط حتى اشتط أو فرَّط حتى ضيَّع، نقول له "فلان يا يحرَّق يا يمَرَّق" ، أى يفرط بالنار على طعامه فيحرقه، أو يكثر مرق طعامه فلا يطيب، وعلى هذا المثل سارت وزارة التربية والتعليم مدة سبع سنين، فكان الدكتور الوزير طارق شوقى لا يرى أن يُكلف تلميذ الابتدائية بواجبات منزلية، ولا بحمل كراسات ودفاتر، وإنما يكون كل تعليمه أنشطة يقوم بها فى كتابه المدرسى، وأن يُقدِّر المعلم جهده وتحصيله بالألوان لا بمجموع الأرقام، ولم يكن للمعلم أن يخط بقلم أحمر خطًّا فى كتاب تلميذ ليُصوِّب كلمة أو يقدِّر درجة، بل كان معلم الابتدائى يُحذَّر أنه إذا تفقدت فرق المتابعة كتب التلميذ فوجدت فيها خطَّ تصحيح بقلم المعلم فسيُؤاخذ المعلم بتلك المخالفة! فإن أَبَى المعلم إلا الكراسات فلتكن كراسة نشاط، أو كراسة لا يطلع عليها المتابعون! فكان بعضنا يسأل معلم ابنه عن واجبه المنزلى، فكان المعلم يجيبه بأن الوزير منعه! فأوجد ذلك عند التلميذ كسلًا وفتور همة، وأوجد عند ولى أمره سخطًا وإنكارًا.
فكان ذلك من "التمريق" والاسترخاء الزائد الذى يفضى إلى التضييع.
ثم خلف الدكتور رضا حجازى الدكتور طارق شوقى ، فكأنه لم يعجبه أمر هذا "التمريق"، فسلك بتلاميذ الصفوف الثلاثة الأولى ومعلميهم مسلك التقييمات الشهرية وأكثر عليهم منها بأسماء مختلفة، ومدته فى الوزارة لم تطل.
ثم من بعد "التمريق" جاء "التحريق"، فجاء السيد الوزير محمد عبداللطيف بالقرار (١٣٦ تقييمات)، وكأن الرجل كان شديد السخط على "تمريق" الدكتور شوقى، فلما خلفه على الوزارة أبطل مذهب الدكتور شوقى، وتجاوز القصد والاعتدال إلى الإفراط فى هذه التقييمات، بل لا أقول إنه أفرط لكنه "أغرق" كل منتسبى الوزارة ، من طلاب ومعلمين ومديرين ووكلاء وزارة ومساعدى الوزير، أغرقهم فى بحر لُجِّىٍّ من التقييمات والأداءات الصفية والمنزلية والأنشطة والكتاب المدرسى والتصحيح والرصد اليومى والأسبوعى والشهرى، فأصبح لدى وزارة التعليم ملايين من الكَتَبَة يخدمون القرار القراقوشى (١٣٦)، فواجب الوقت عند الوزارة ليس عرض المادة العلمية ولا شرحها، بل إنجاح القرار (١٣٦)، فالجميع مُسخَّر لخدمة القرار الوزارى، ورضا المتابع الوزارى، ومن أرسل المتابع الوزارى، فأين حظ الطالب من العلم؟! حظه ما يتبقى من دقائق إن بقيت له دقائق بعد هذه الطاحون العابثة؛ لأن التقييمات والأداءات قبل الشرح! فإن كان للطالب ولى أمر ذو همة وذو سعة من المال ورأى ذلك فسوف يلتمس لابنه دروسًا خاصة يعوض بها نقص الشرح المدرسى، فيقوم سوق الدروس الخاصة على ساق من حيث لا تريد "وزارة التقييمات والأداءات"، وإن كان له ولى أمر لم يؤت حظًّا من الهمة ولا سعة من المال فسيمنع ابنه المدرسة ويلحقه بصنعة يتكسب منها ويرى أن ذلك خير لابنه من حصص مدرسية تُنفق فى الأحبار والأوراق، ولا أظن الوزارة تريد هذا أيضًا، لكنها تُعين على هذا وعلى ذاك بإصرارها على القرار (١٣٦ تقييمات)!
فبعد شهر أو يزيد من بدء عام التقييمات هذا، أَلَمْ تبلغ تعقيبات المخاطَبين بالقرار (١٣٦) آذان صاحب القرار (١٣٦)؟! أليست تعقيبات القائمين على إنفاذ القرار (١٣٦) من طلاب وأوليائهم ومعلميهم بعد أن أنفذوه وقاموا على العمل به نحوًا من شهر ونصف، أليست تعقيباتهم تلك تستحق من السيد محمد عبداللطيف إعادة النظر فيما أصدر من قرار؟! أليس من العيب أن يَغض المسؤول طرفه ويصم سمعه عن مراجعات الملايين من منتسبى وزارته ومتلقى خدماتها فلا يجيبهم ولا يلتفت إليهم كأنهم الهباء المنثور؟!
إن مثل القرار (١٣٦) لم يكن ينبغى التعجل فى إصدارها، وإن أُصدرت ووَجَّه أهل الشأن بمراجعتها فينبغى مراجعتها وإصلاحها وإعادة النظر فيها؛ لأنهم قد خبروها بالتجربة، أما التمادى فى التمادى فليس يفيد متعلمًا ولا معلمًا ولا عملًا.
وإنه ما بين "التمريق" و"التحريق" يُبْخس تلميذُ الابتدائى حظه من العلم.
-------------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
mohammedzein110@gmail.com