فتحت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي حول مراجعة الموقف مع صندوق النقد، حوارًا مجددًا، لا ينتهي حول شروط صندوق النقد المجحفة، والتي تثار بشكل دائم من الخبراء ليس هذه الأيام فقط بل على مر السنوات منذ أول اتفاق عام 1992، والتحذيرات من تلك الشروط التي يصفها البعض بأنها تزيد الفقراء فقرًا والأغنياء غنى.
وليست تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس السيسي حول الاتفاقيات مع صندوق النقد، بل قال قبل شهور، حينما لفت في يونيو 2023 إلى استبعاد "خفض قيمة الجنيه المصري"، والذي من شأنه أن "يضر بالأمن القومي والمواطنين"، موضحا وقتها نحن مرنين فيه.. لكن عندما يتعرض الموضوع لأمن مصر القومي وأن الشعب المصري يضيع.. لا، لا، لا، لا".
صحيح وقتها جاءت التصريحات بعد التأثيرات السلبية لخفض الجنيه في أوائل 2023، إلا أن نفس قرار التخفيض للجنيه تم مرة أخرى بعد حوالي 9 أشهر وتحديدًا في مارس 2024، والذي ترك سلبيات مازال يعاني منها المواطن، نتيجة تطبيق "روشتة" صندوق النقد وما تلاها من قرارات تتعلق برفع أسعار المحروقات والكهرباء، وتخفيض بنود الدعم، وسياسات التخلص من أصول الدولة، وغيرها من قرارات الخصخصة.
وتبقى هناك أسئلة مهمة، أثيرت وتثار حول ما تعنيه تصريحات رئيس الجمهورية، حول العلاقة مع صندوق النقد، والتي جاءت بعد الزيادة الثالثة في أسعار البنزين والسولار، خلال العام الجاري 2024، والتي أدت إلى موجات من الارتفاعات في أسعار السلع والخدمات، عامة والنقل والموصلات بشكل خاص، بخلاف أنها تأتي قبيل المراجعة الجديدة من صندوق النقد والتي تأجلت من سبتمبر إلى نوفمبر المقبل، وقد تتأجل مرة أخرى لما بعد 2024.
والأمر لا يحتاج إلى تأكيد فبالفعل، فإن تنفيذ بنود الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، تسببت في "ضغط لا يتحمله الناس"، وهو واقع ملموس، وحديث الناس اليومي، في كل مكان وبين كل الشرائح، وكثير من مقدمي الخدمات للمواطنين، يستخدمون ارتفاع أسعار المحروقات ذريعة لرفع تكلفة ما يقدمونه من خدمات، سواء رئيسية أو حتى غير رئيسية.
ومحاولة رئيس الوزراء د. مصطفي مدبولي لامتصاص حالة الغضب في الشارع المصري، من قرار أسعار الوقود، بقوله أنه "لن يكون هناك أي ارتفاع جديد في أسعار المحروقات قبل 6 أشهر"، إلا أن فقدان الثقة التي ارتفعت في الشارع، أصبحت هي سيد الموقف، والناس تتوقع أن تواصل الحكومة سياساتها في تبعية مطالب وشروط صندوق النقد، والتي تركز على رفع يد الدولة من كل شيء، والتخلي عما يسمى في علم الاقتصاد الاجتماعي "المواطن الأولى بالرعاية"، وترك كل شيء لقوى السوق والعرض والطلب.
ومن الأمور المثيرة والتي تحتاج إلى توضيح من الحكومة، ما قاله رئيس الوزراء صراحة "إن الدولة قد تطبق مفهوم "اقتصاد الحرب"، وهو ما يعني الدخول في مرحلة شديدة الخطورة مع تحديات واسعة، سيواجهها، ليس المواطنين من محدودي الدخل، بل ما فوقها، بخلاف ما يترتب على ذلك من تداعيات على اقتصاديات الدولة.
الرئيس السيسي، لفت في تصريحات بأن الدولة نجحت في عام 2016، عند تطبيق أول برنامج (مشرطي) للإصلاح الاقتصادي بفضل تطبيق برنامج "متفق عليه مع المؤسسات دولية" في ظل استقرار الأوضاع الإقليمية والدولية، مقارنة بالوضع الحالي، بينما البرنامج الحالي يأتي في ظروف إقليمية ودولية وعالمية شديدة الصعوبة، لها تأثيرات سلبية للغاية في العالم أجمع، بل في ظل توقعات بركود اقتصادي خلال السنوات القليلة المقبلة.
ولكن في المقابل هناك مؤشرات تؤكد أن المواطن والبسطاء وفئات عديدة من متوسطي الدخل وما فوقهم، يعانون الكثير من قرارات الإصلاح الاقتصادي، والمتوقع أن تتزايد في الشهور المقبلة، وفقا لتصريحات ورغبات الحكومة، ومنها تغييرات جذرية في بنود الدعم (ما بين العيني والنقدي)، وحملات الترويج الإعلامية والتمهيدية لها.
ومن هذا المنطلق تأتي أهمية كلمات الرئيس "لو كان التحدي هيخلينا نضغط على الرأي العام بشكل لا يتحمله الناس، لابد من مراجعة الموقف.. لا بد من مراجعة الموقف مع الصندوق".
ولكن السؤال كيف وما هو المطلوب للتخفيف عن المواطنين؟.. أتصور أن أول الطريق يبدأ بحوار حقيقي لدراسة البدائل الوطنية المتاحة للإصلاح بما يراعي دخول ومتطلبات فئات الشعب، وتسبق ذلك مطالبة واضحة من صندوق النقد بإجراء تعديل ومراجعة لما يشترطه الصندوق، والتي تقوم الحكومة بتحويله إلى قرارات تتطابق مع رؤي الصندوق.
والأهم اعادة النظر في البرامج الزمنية للإصلاح، وإرجاء بعضها أو التخلي عنها، خصوصًا ما يتعلق بالدعم، وفكرة تطبيق الدعم النقدي، حتى يتم التوصل لتوافق حوله خاصة فكرة تطبيق زيادة سنويا تغطي الفروق الناجمة عن التضخم، علاوة على النظر بجدية لقضية سعر الصرف والتي أغرقت البلاد في مشاكل اقتصادية متعددة، لا ينكرها أحد.
أتصور أن الظروف المحيطة بمصر، والسياسية، وما يحدث من توترات في السودان، والتداعيات الناجمة عن العدوان الصهيوني على غزة وحتى الضفة، وعلى لبنان دون استثناء، عامل مهم في دعوة صندوق النقد لمراجعة شروطه، والتي يصبح تنفيذها أكثر صعوبة في ظل التزامات الحكومة المصرية تجاه مواطنيها، واللاجئين من بلادهم إليها، والذين يصل عددهم إلى قوام دولة من دول العالم.
ولو عدنا إلى برامج الإصلاح الاقتصادي المتعارف عليها في العالم ومع المؤسسات الدولية، سنجد من بينها ما يناسب ظروفنا الاقتصادية، خصوصًا تلك التي تعتمد على أفكار ومفاهيم محلية، بما يناسب ظروف مصر، مثل تلك التي تم تطبيقها في سنوات ما قبل الأزمة المالية العالمية 2008، والتي وفرت غطاء حماية لمصر من تداعيات تلك الأزمة، والتي عصفت باقتصاديات دول عديدة، ومنها دول بترولية.
----------------------------------
بقلم: محمود الحضري