08 - 05 - 2025

فائض القوة وفائض الحرب

فائض القوة وفائض الحرب

كنت قد ذكرت فى مقالة "مكسيكوكرانيا" أنه لم تكن أمريكا لتعين اليهود على ما هم عليه من إفساد فى الأرض إلا بفوائض ما عندها من القوة والسلاح والمال، وأنه لو شُغلت أمريكا بحديقتها الخلفية لامتنعت عن إتلاف حدائق الروس والعرب، لكن فائض القوة الأمريكية يغريهم بالاجتراء، فلو تكافأت القوتان لاعتدلت الكفتان واستوى الميزان واستتب أمر العالم، لكن هذا التفاوت ما بين الفريقين ورجحان أحدهما يغرى الأقوى بمزيد بطش، ومزيد قهر، ومزيد تنكيل، ويُزَهِّد إليه المهادنة والموادعة، بل هو يرى نفسه فى غنى عن تلك الموادعة والمهادنة، ويزين له فائض قوته الإقدامَ على الغنيمة الحاضرة قبل فواتها وقبل أن يقوى عدوه فيرده، فيكون ما نراه اليوم من التمادى بعد التمادى، ومن وصال الشر بالشر، ومن فتح أبواب الحرب بابًا بعد باب حتى نوشك أن نسقط فى حرب عالمية من جراء فائض القوة الأمريكية! فإنك إن نظرت إلى الحرب الأوكرانية لوجدت أن فائض قوة الأمريكان قد حملتهم على أن يُغروا الأوكران الذين هم على بوابات موسكو أن ينضموا إلى الناتو غير مبالين بالروس ولا تحفظهم، فلما قاتلهم الروس أمدتهم أمريكا بالسلاح الأمريكى والكورى الجنوبى والأوروبى، وأعانوهم بالجنود والخبراء مختلفى الأجناس حتى ذهب الأوكران فى جرأتهم إلى ضرب موسكو وقبة الكرملين والمطارات، ثم احتلوا أجزاء من كورسك الروسية! فما كان من الروس ومن كان معهم من حلفائهم إلا أن قاموا يردون هذا العدوان عن الأرض الروسية وعن تخومها، فأمدتها إيران بالصواريخ والمسيرات، وأمدتها كوريا الشمالية بالقذائف والجند، وأمدتها الصين بما عندها، فإن لم تكن هذه حربًا عالمية صغرى، فأى اسم نسميها؟! 

ثم انظر فائض القوة عند الحلف الأمريكى الإسرائيلى  كيف حملهم على إبادة غزة بشرًا وحجرًا غير مبالين! بل انظر كيف جرأهم فائض القوة على تجاوز غزة إلى ما بعدها وما بعد بعدها فذهبوا يقذفون دمشق وطهران وكانت هذه عادة لهم فى هاتين العاصمتين من قبل الطوفان! ولم يكن ذلك كله إلا عن فائض سلاح ومال أمريكيين، فلما رأى حلف المقاومة أنهم جميعهم غرض مستهدف لم يكن لهم بُدٌّ إلا أن يتضامُّوا ويتراصوا بنيانًا واحدًا ليقاتلوا البغاة بالمباشرة أو بالمناوشة، فأصبح الحلف الأمريكى الإسرائيلى ومن لحق بهم من العرب والأوروبيين يقاتل ببلادنا حلف المقاومة الذين هم إيران، وحوثى اليمن، ومقاومو العراق، ومقاتلو حزب الله، ومقاتلو حماس، فإن لم تكن هذه حرب عالمية صغرى، فبأى اسم نسميها؟! 

إن فائض القوة عند الحلف الأمريكى قد أضرم حروبًا عالمية متعددة الأجناس والأعراق والبلدان فى غير بقعة من الأرض، وإنه لتوشك تلك الحرائق المتفرقات أن تتصل فتجتمع فتكون حربًا عُظمى تغشى العالم كله، سواء من طلبها ومن قعد عنها ومن فرَّ منها، ولا أحد حينئذ سيكون مُعفًى من خوض غمراتها، بل يغشاها الكل مُكرهًا غير مُختار، حتى من اعتزلها أو نكص عنها أو تريث فى أمره لن يجد بُدًّا إلا أن يخوضها وإلا أدركته فأفنته! بل سيكون الاستسلام ترفًا لن تستطيعه كثير من الأمم، لأن من عندهم فضول القوة ليسوا كرماء من أهل "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بل لؤماء من أهل "ليُخرِجن الأعزُّ منها الأذل"، فليسوا يقبلون من أعدائهم إلا الهزيمة، فإذا انهزموا لم يرضوا منهم بغير الاستسلام وإلقاء السلاح، فإذا استسلموا وألقوا السلاح لم يقنعوا إلا بأن يستذلوهم فى عقر ديارهم، وهذه غزة المثل الحى، كم سمعنا  العدو يقول إنه ليس يرضى من غزة إلا أن ينهزم أهلها، ويلقوا السلاح، ويستسلموا ليقتل من يشاء وينكل بمن يشاء، ثم يقيم عليهم حاكمًا يأتمر بأمره، ثم يغتصب من أرضهم ما طاب له! 

وروسيا هذه إن تركت اليوم أكرانيا ونزلت عما كانت تطلبه من الأراضى والموانئ ورجعت خلف حدودها، هل تظن أن الأمريكان سيرضون منها بذلك؟! كلا، سيطلبون أن تكون الأقاليم الغربية والجنوبية لروسيا منزوعة السلاح، وبها رُقباء وخفراء أمميون، فإن قال الروس نعم، نفعل، أمروهم أن يتخففوا من ثقيل أسلحتهم، وأن يدفعوا للأوكران العِوض، فإن أجابوهم إلى ذلك أمروهم أن يسلموا بوتين وكبار قادته ليُحاكَموا!

فغرور الحلف الأمريكى وفائض ما عنده من قوة يحول بينه وبين المهادنة، وشهوة التشفى تحول دون أن يقبلوا من الضعيف الاستسلام ولا أقل منه! فإذا جرت الأمور والمقادير على هذا الاطراد فليس من بُدٍّ للفريقين إلا أن يلتقيا فى حرب عالمية عظمى، وهى مقادير الله تسوق الجميع ليقضى الله أمرًا كان مفعولًا، ولا أظن الحرب العظمى المرتقبة ستضع أوزارها حتى تستوى الكفتان فلا يكون راجح ولا مرجوح بل يكون موجوع وموجوع فيضطران إلى الصلح جميعًا، أو أن تنحسم بانهزام أحد الفريقين فيُفعل به فعل الغالب بالمغلوب، أو يطفئها الله بأمر لا نعلمه.

فإذا كانت الحرب العُظمى قدرًا مقدورًا فلا نعجز عن أن نستعد ونتجهز لها، وإن أول التجهز والإعداد أن يتألَّف الحكام قلوب شعوبهم وأن يزيلوا مظالمهم حتى يكون الرأس والأعضاء جسدًا واحدًا مؤتلفًا لا يخالف بعضه بعضًا، فإذا ما أدركتهم الحوادث المرتقبة كانوا قلبًا واحدًا ويدًا واحدة وعزمًا صادقًا لا يغشاه غش ولا دَخَل ولا تردد، وأن تُهيَّأ الشعوب لذلك وتُوَطَّن على احتمال الشدائد والمحن المرتقبة، وأن نعد ما استطعنا من رأى وتدبير وقوة وعدة وعدد، وندخر الأموال والأقوات للأيام العِصاب، وخير من ذلك كله أن يخلف الله ظنوننا فيما نرى، وأن يرزقنا بحسن رحمته العافية والخير.
---------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حَضَروا!