في لقاء جمع بين الملك حسين وممثلي البعثات الدبلوماسية في الأردن ، أنتحي بي جانباً وقال بأسلوبه الودي المعتاد : " لماذا يعاملنا فخامة الرئيس حسني هذه المعاملة ؟ " ، وكان السؤال مفاجأة لي ، لأنه قبل ذلك بأسابيع قليلة كان الرئيس المصري في زيارة خاطفة للأردن ، حيث استقبله الملك في استراحته الفخمة في ميناء العقبة حيث تناولا الغذاء ، ودار حديث ودي تناولا فيه بعض القضايا العربية بشكل عام ، مع التركيز علي أوضاع الحصار في العراق .. استفسرت من جلالته ، فأجاب بعد إبتسامة فاترة : " أن فخامة الأخ يتصور أن الأردن ينازعه حب إسرائيل !! " ، أبديت عدم تفهمي ، فاستطرد قائلاً : " زيارة سمو الأمير حسن ( شقيق الملك وولي عهده آنذاك ) الخاطفة إلي إسرائيل كانت ضرورية " ، ثم ذكر بعض الأسباب التي لا أري الكشف عنها مناسباً ، وعرفت أن سبب ضيق الملك هو ما نقل إليه من مقالات في بعض الصحف المصرية تهاجم السياسة الأردنية وتسخر من الأمير حسن ، وعندما أوضحت له أن الصحافة المصرية تتمتع بالحرية ، ولا يمكن السيطرة عليها ، وأن بعض تلك الصحف تنتقد الرئيس نفسه ، ضحك الملك بصوته الجهوري ، وقال بشكل حاول أن يسيطر علي لذعة السخرية فيه : " فعلاً .. الصحافة المصرية حرة في مهاجمة من لا يرضي عنهم فخامة الأخ الرئيس !"
تعمدت بعد ذلك أن أجري مقابلة صحفية مع إحدي الصحف الأردنية ، تحدثت فيها عن العلاقات الثنائية المتميزة بين البلدين وما تحقق من زيادة في حجم التجارة البينية ، ودور العمالة المصرية في المشاركة في تنمية الأردن ، وفي سياق الحديث ذكرت أن جزئية الإتفاق مع إسرائيل لا تعني القبول بجزئية السلام ، وأن إسرائيل تخطئ إذا ظنت أن توقيع السلام مع مصر والأردن هو نهاية المطاف .. وتلقيت إتصالاً هاتفياً من صديق قريب الصلة بالديوان الملكي يعرب فيه عن ارتياحهم لتلك المقابلة الصحفية .
ولم يمر أسبوعان ، حتي اتصل بي مدير مكتب وزير الخارجية الأردني كي يشكو لي بلباقة وأدب من بعض المقالات التي تنتقد الخطوات الأردنية المتسارعة في التطبيع مع إسرائيل ، وعندما حاولت التحجج بحرية الصحافة ، ضحك الرجل وقال لي أنه تعلم في مصر ويعرف المثل الذي يقول :" إحنا دافنينه سوا " .. وبعد حديث مقتضب عن الأصل التاريخي لهذا المثل ، وعدته بأن أرسل للقاهرة بالشكوي ، ولكنني طلبت منه أن يوافيني بها كتابة ، وفوجئت به يرفض قائلاً أنه يفضل أن تكون هذه الموضوعات في إطارات المبادلات غير الرسمية ..
في الأسبوع التالي ، شنت السلطات الأردنية حملة واسعة ضد العمال المصريين الذين يقيمون في الأردن بشكل غير شرعي ، وكانت بعض الإجراءات الأمنية شديدة التعسف والعنف ، مما أضطرني للتوجه أكثر من مرة لمراكز الشرطة المختلفة لإخلاء سبيل بعض المصريين ، وفي النهاية لم أجد بداً من الإتصال بوزير الداخلية السيد نذير رشيد ، وكانت تربطني به علاقات طيبة ، وكثيراً ما كان يدعوني لتناول العشاء في مزرعته ويروي لي دوره مع المخابرات المصرية في تهريب عبد الحميد السراج من سجن المزه في سوريا ، وكيف أنه عاش لاجئاً سياسياً في مصر التي يحمل لها كل الحب والتقدير .
طلب مني زيارته في مكتبه ، وتوجهت إليه ، وقد قابلني مدير مكتبه عند مدخل الوزارة وتحدث معي لبعض الوقت حول استياء السلطات الأردنية مما تنشره بعض الصحف المصرية ، وعندما لم يقتنع بحجة حرية الصحافة ، قلت له أن ما ينشر علي كل حال محدود وغير مؤثر ، فقال لي : سيدي أن كل العرب يقرأون الصحف المصرية ويتأثرون بها ..
وعندما دخلت إلي مكتب الوزير ، عانقني بحرارة هاشاً باشاً ، وطلب من مدير مكتبه الإنصراف ، وفوجئت به يبادرني قائلاً أنه وافق علي طلبي لزيارة المحتجزين المصريين في السجون الأردنية ، وأن ذلك استثناء لي شخصياً لم يحصل عليه أي ممثل دبلوماسي لأي دولة .. ورغم أن ذلك العرض كان سخياً بالفعل ، إلا أنني لاحظت أنه يحاول إستباق شكواي من معاملة السلطات الأمنية للجالية المصرية ، ولذلك انتهزت الفرصة المناسبة لعرض ما أتيت من أجله .. نظر لي الرجل الطيب ملياً وقد ارتسمت علي وجهه إبتسامة معتذرة ، وهمس قائلاً : " لقد قرأت تقارير عن إقتحامك لبعض مراكز الشرطة ومشاداتك مع الضباط ، وهناك من لا يسعدهم ذلك ويريدون التصرف معك بشكل لا يرضيك ولا يرضيني ، ولكنني أصدرت تعليمات مشددة بعدم التعرض لك" .. ثم سكت قليلاً قبل أن يقول أنه تقديراً لزيارتي سوف يصدر تعليمات بإعطاء مهلة لمدة شهرين للعمال المصريين كي يقوموا بتقنين أوضاعهم ، وسوف يصدر القرار خلال يومين ..
بعد ذلك تحدثنا في موضوعات أخري ، وعند خروجي قال لي بحرص : " بعض المقالات عندكم في مصر مؤذية ولا فائدة فيها ، لماذا لا تنصحون بتخفيف هذه اللهجة العدائية " .. قلت له مختنقاً : " لا يمكن أن يدفع هؤلاء العمال الغلابة ثمن أي خلافات سياسية أو مشاغبات إعلامية بين البلدين " ورويت له بعض ما رأيته في بعض مراكز الشرطة من معاملة لا تليق للمصريين ، فوعدني بحرارة أن ذلك سوف يتوقف فوراً ، وأن ذلك لا يرضي جلالة الملك ..
وتوقفت بالفعل الحملة ضد العمال المصريين ، وصدر قرار المهلة لشهرين لتقنين الأوضاع ، إلا أن ما حدث ظل عالقاً في ذهني ، وكنت أفكر في أنه لو كانت هناك حرية صحافة حقيقية لما تشكك أحد في أن المقالات التي تنتقد سياسة الأردن لم تكن موجهة من الحكومة ، والدليل علي ذلك أن الحملة الصحفية توقفت بالفعل في توقيت تواكب مع توقف الحملة ضد العمال المصريين ، وعند زيارتي للمحتجزين المصريين في سجن "سواقة" وبعد أن استأذنت مدير السجن في توزيع ملابس رياضية عليهم ، فوجئ الجميع بصفوف المحتجزين الثلاثة وهي تهتف " تحيا مصر .. تحيا مصر " ، وحينها اقترب مني مدير السجن والدموع في عينيه قائلاً : " ليت كل الناس تحب بلادها كما يحب المصريون بلادهم "
------------------------------
بقلم السفير: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق